أياً تكن الأهداف المعلنة في مجال العضويات المعدلة جينياً، وبالرغم من كون تداعيات هذه الصناعة مرعبة على مستوى الصحة والبيئة ومنتجي القطن في الهند، فإن لها أيضاً وجهاً أكثر عبوساً. فبهدف الهيمنة على جماعة بشرية ما وضبطها بطريقة غير العنف لا بد من تحصيل قبولها ورضاها عن طريق ما كان يطلق عليه لويس آلتوسير اسم "الأجهزة الإيديولوجية للدولة"، أي نظام التعليم، الملاهي، الدين، النظام السياسي وما إلى ذلك. وفي هذا المجال، يعالج ناعوم تشومسكي في كتابه "صناعة الرضا" مسألة الدور الهام الذي تلعبه وسائل الإعلام في هذا النظام. كما أن أنطونينو غرامشي قد كتب الكثير حول موضوع الاصطفاء الجيني والوسائل المستخدمة من قبل الطبقة المهيمنة من أجل شرعنة وضعها في نظر المحكومين، ما يشكل نوعاً من "الإكراه المقبول" الذي يغطي على الدور الحقيقي الذي تمارسه السلطة. غير أنه يظل من المرجح أن الاصطفاء الجيني هو الشكل الأكثر عمقاً وناجعية للضبط الاجتماعي. ومن بين الأهداف الأخرى لهذه الفلسفة تقليص القدرة على إنجاب "الأفراد غير المرغوب فيهم". وعليه تتزايد الخشية من أن يستخدم الاصطفاء الجيني في ضبط جماعات بشرية والتخلص بذلك من شرائح كاملة من سكان العالم المنظور إليهم على أنهم "فائضون عن الحاجة". ففي الغرب سيتحول قسم كبير من السكان بشكل نهائي إلى عاطلين عن العمل، أو إلى عاملين ثانويين بفعل الأتمتة وهجرة أماكن العمل. لذا، فإن ضبط الولادات قائم منذ عقود في بلدان كالصين والقارة الإفريقية. وبهذا الصدد، يعتقد تيد تيرنر، الملياردير وعملاق الإعلام في الولاياتالمتحدة بأن تقليص عدد سكان الأرض إلى ملياري شخص هو أمر جيد تماماً. أما الملياردير بيل غيتز فقد وعد بتقديم مئات الملايين من الدولارات للدفع إلى الأمام بوسائل منع الحمل في البلدان النامية. ففكرة العدد المحدود من البشر، وهي فكرة تستند إلى الاعتبار الخاطئ بأن العالم قد ضاق بساكنيه، تعني أن النخب الأكثر يسراً يمكنها أن تحد من التنافس على تملك الخيرات التي تطمع بالاستيلاء عليها، وأن تحافظ بذلك على مستوى استهلاك مرتفع. كما اشترى غيتس أيضاً أسهماً في شركة مونسانتو بقيمة 23 مليون دولار. فهو يريد مساعدة مونسانتو على نشر العضويات المعدلة جينياً على أوسع نطاق ممكن في إفريقيا. ولكن أين موضع الأهمية في ذلك ؟ في العام 2001، قامت شركتا مونسانتو ودوبون بشراء منشأة صغيرة تعمل في مجال التكنولوجيا العضوية اسمها "أيبيسيت". وكانت هذه المنشأة قد اخترعت جينة تسبب العقم عند الرجال والنساء. كما أن المأكولات المعدلة جينياً باتت موجودة في أسواق الولاياتالمتحدة وهي لا تحمل تنبيهات تدل على أنها كذلك. وقد أنفق قطاع العضويات المعدلة جينياً ملايين الدولارات من أجل المحافظة على هذا الوضع. إذن، فإن مواطني الولاياتالمتحدة ليست لديهم أية فكرة عما يمكن أن يكون موجوداً في طعامهم. وليست هنالك دراسات مستقلة حول تأثير هذه الأطعمة على الصحة. لقد كان والد بيل غيتس ناشطاً ولفترة طويلة في مجال برامج تنظيم الأسرة والحد من الولادات. وقد قال بيل غيتس في مقابلة أجريت معه عام 2003 : "عندما كنت صغيراً، كان والداي يشاركان دائماً في أعمال تطوعية. وكان والدي يترأس منظمة التنظيم الأسري". وكانت هذه المنظمة مؤسسة على المفهوم القائل بأن معظم الكائنات البشرية تتوالد بطريقة غير مسؤولة. إن غيتس الأب هو رئيس مؤسسة بيل وميلاندا غيتس، وهو من يشرف على رؤى وتوجهات هذه المؤسسة التي تركز نشاطها على نشر العضويات المعدلة جينياً في إفريقيا، وتقوم بتمويل جمعية "التحالف من أجل ثورة خضراء في إفريقيا". لقد دفعت مؤسسة غيتس ما لا يقل عن 264 مليون دولار لجمعية التحالف المذكورة أعلاه. ويقول تقرير نشرته مجلة La Via Campesina (طريق الفلاحين) في العام 2010 بأن 70 بالمئة ممن يتلقون أموالاً في كينيا من التحالف المذكور يعملون مباشرة مع مونسانتو، وأن 80 بالمئة من أموال مؤسسة غيتس مخصصة للأبحاث في مجال التكنولوجيا العضوية. ويقول التقرير أيضاً بأن مؤسسة غيتس قد وعدت بمنح 880 مليون دولار من أجل إنشاء "البرنامج العالمي للزراعة والأمن الغذائي"، وهو برنامج شديد الحماس للعضويات المعدلة جينياً. فبدلاً من أن تتبنى مؤسسة غيتس وتدعم انطلاقة حقيقية للسيادة في مجال الغذاء، وبدلاً من أن تتصدى للمشكلات الاقتصادية والسياسية التي تشكل مصدر الفقر، اختارت تلك المؤسسة أن تشجع زراعة تسيطر عليها الشركات الخاصة التي نهبت المزارعين. وفي حين يواصل قطاع العضويات المعدلة جينياً قرع أبواب الهند، فإن من حقنا جميعاً أن نشعر بالقلق. ليس فقط إزاء التداعيات المشؤومة على مستوى الصحة والبيئة لاحتكارات البذور من جهة، وللعضويات المعدلة جينياً من جهة أخرى، وهي تداعيات باتت موثقة، بل أيضاً إزاء أنواع الجينات التي يمكن أن تدخل في أطعمتنا دون أن نشعر بذلك. يؤكد الباحث ف. ويليام انغدال أننا لا يمكن أن نفهم الهندسة الجينية دون أن نلحظ هيمنة الولاياتالمتحدة قبل ذلك. إن شخصيات مرموقة في الولاياتالمتحدة قد قدمت التمويل ل "الثورة الخضراء" داخل القطاع الزراعي في البلدان النامية بهدف إيجاد أسواق جديدة للأسمدة البتروكيميائية والمواد النفطية، وكذلك بهدف تعزيز تبعية المنتجات في مجال الطاقة. وعليه، تكون الأغذية قد أصبحت اليوم سلاحاً يضمن الهيمنة على العالم. إن مشكلات العالم ليست ناجمة عن تزايد السكان، بل عن البخل وعن نظام للملكية يضمن تدفق الثروات من القاعدة نحو القمة. لا ينبغي وقف التزايد السكاني بل تغيير العقليات وتغيير نظام دولي معمم ومؤسس على التبعية الكبيرة إزاء المواد النفطية، وعلى اجتثاث المصادر الطبيعية للثروة. والولاياتالمتحدة هي، في كل ذلك، المذنب الرئيسي. إن أصحاب المليارات من أمثال تيد تيرنر يعتقدون بأن مواصلة الاستهلاك ضرورية بأي ثمن، حتى ولو مر ذلك بتقليص أعداد البشر. إنها إيديولوجية الأغنياء الذين ينظرون إلى غيرهم من البشر على أنهم مشكلة "ينبغي التصدي لها". فهو يؤكد أن "هنالك أعداداً فائضة عن الحد من البشر، وأنهم يستخدمون أعداداً فائضة عن الحد من الأشياء". إنه يمضي في الغلط إلى مداه الأقصى. فعلى سبيل المثال، يعيش في البلدان النامية أكثر من 80 بالمئة من سكان الكوكب، ولكنهم لا يستهلكون إلا ثلث الطاقة في العالم. أما سكان الولاياتالمتحدة فيستهلكون من جهتهم 24 بالمئة علماً بأنهم لا يشكلون غير 5 بالمئة من سكان الكوكب. إن المواطن الذي يعيش في الولاياتالمتحدة يستهلك بقدر اثنين من اليابانيين، وستة من المكسيكيين، و13 من الصينيين، و31 من الهنود، و124 من البنغاليين، و307 من التنزانيين و370 من الإثيوبيين. أليس علينا إذن أن نقلق إزاء قطاع مستحكم إلى أبعد حد من الناحية السياسية ويمتلك تكنولوجيا تسمح له بأن يتلاعب بالأطعمة عن طريق الجينات، ومنها جينات يمكن أن تستخدم (أو أنها باتت تستخدم فعلاً) في التعقيم الإجباري ؟ طبعاً علينا أن نقلق، لأن الهدف المعلن لذلك القطاع هو التحكم بالسلسلة الغذائية، ومن ثم، ضمنا، بعدد السكان على ظهر الكوكب. في عالم اليوم الذي تقوده التكنولوجيا، تقوم الشركات الحكومية والخاصة باستخدام ترسانة كاملة من الوسائل التكنولوجية المتقدمة بهدف التحكم بنا. قبل عدة عقود، لخص المنظر والفيلسوف هربرت ماركوزه المشكلة التي تواجهها المجتمعات المعاصرة قائلاً بأن القدرات العقلية والتكنولوجية في هذه المجتمعات قد أصبحت أكبر مما كانت عليه في الماضي، ما يعني أن وطأة هيمنة المجتمع على الفرد هي أيضاً أكبر مما كانت عليه في الماضي. وهذا يصح تماماً على مجال الهندسة الجينية.