في فهم العبد الفقير إلي الله الشريعة معجزة؛ وسر إعجازها أنها إذ تضع القواعد القانونية التي تحكم الحياة بكل نواحيها و شتي مجالاتها فرقت بين تلك الأمور التي تتغير بظروف الزمان والمكان كالتجارة والزراعة والمعاملات المالية والعلاقات الدولية وشئون الدولة وغيرها من المتجدد والمتطور والمتغير والمستحدث، وبين هذه الأمور التي لا تتغير بظروف الزمان والمكان ولن تتغير ما بقي الإنسان علي قيد الحياة؛ فالزواج والطلاق والرجعة والميراث وكذا القتل والسرقة والزنا والفساد في الأرض وخيانة الوطن أو الدين وتناول المسكرات.. باختصار الأحوال الشخصية والجنايات والحدود من الأمور الملازمة للإنسان ما دامت الحضارة الإنسانية علي وجه البسيطة ولا تتغير أو تختلف من بلد لبلد أو من عصر لعصر فالإنسان يموت و يورث و يتزوج و يطلق و يرتكب أو ترتكب في حقه الجرائم في كل مكان و كل زمان. وتتجلي معجزة الشريعة الإسلامية أنها تضع أحكاماً تفصيلية دقيقة في هذه الأمور التي لا تتغير بتبدل الظروف والأزمنة، وتضع قواعد عامة شاملة لتلك التي تتغير وتتطور وتبدلها دولة الأيام ويبقي استكمال البناء التشريعي فيها للاجتهاد والفقه وفيه اختلاف من زمان لزمان ومن مكان لمكان فالشريعة ثابتة والفقه متجدد يستهدي بالقواعد الإجمالية في الشريعة ولا يخرج عنها و يضع القواعد التفصيلية آخذا بالعرف وما جرت عليه الأحكام والعادات يقيس علي ما سبق و يستحسن الرأي فيما لم يهتدي فيه إلي قياس. والحديث عن شريعة المعاملات فالعبادات فيها أحكام أكثر تفصيلا ودقة وهي تنظم العلاقة بين العبد وربه، العبد وحده فلا مجال لتدخل من آخر إذ لا يشق أحدنا عن قلب غيره و القلب هو موطن الاعتقاد ومحل النية والنية تنعقد عليها الأحكام فالأعمال بالنيات كما علمنا صلي الله عليه وسلم في حديثه كما أن الناس متساوون "كأسنان المشط" و كما قيل لا سلطان لمسلم علي مسلم إلا "الدين النصيحة". وقد دلي كل بدلوه منذ انتقل رسول الله إلي رحمة ربه؛ فقد اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وقرروا مبايعة سعد بن عبادة ولياً لأمرهم وحاكماً عليهم حتي بلغ الأمر أبا بكر و عمر وجمع من المهاجرين فانتقلوا إلي السقيفة درءا للفتنة والفرقة في الدولة .. حتي كان ما كان بعد مفاوضات كان لمهارات بن الخطاب الإقناعية فيها عظيم فضل علي الإسلام الدين و الدنيا. وقد تقاتل المسلمون علي السلطة منذ حوصر ذي النورين في منزلة وانتقل إلي رحمة مولاه شهيدا واستشهد من بعده عمار و كان "موعده الجنة" ومن بعده بن أبي طالب؛ أليسوا ثلاثتهم مبشرين؟! ألم يهدم الحجاج كعبة الله علي عبد الله بن الزبير وهو بن الطيب المطيب وأمه ذات النطاقين التي جاهدت يوم جبن الرجال؟!!! فمن كان من هؤلاء علي الحق ومن كان علي الباطل؛ أمعاوية كاتب الوحي أم علي المبشر بالجنة؟ إن تاريخنا الإسلامي يفيض بالنكبات التي تقاتل فيها أهل الرأي الذين نسبوا رأيهم لدين الله و شريعة الله، وما رمي الحجاج الكعبة بالحجارة والنار إلا وهو يزعم أن هذا في سبيل الله و نصرة لدينه ومن قبله هل هدمها يزيد لأنه كافر؟!! العجيب أنك تري عبيدا بعد عشرات القرون لم يهدهم الله إلي حسن الفهم و لم يرد لهم خيرا فتفقهوا في دينه ولم يأتهم خيرا كثيرا بالحكمة التي بشر بها في كتابه الكريم؛ ويزعمون أنهم كل هذا وذاك بل هم حماة الدين والعقيدة و الشريعة و جنود الله؛ أحيوا العصبية الجاهلية من جديد بأسماء مذهبية وطائفية ما أنزل الله بها من سلطان وباسم الدين و باسم الرسول و باسم الصحابة و باسم السلف و أطلقوا العنان لهواهم فشقوا عن قلوب الأجداد و فندوا منهم الصالح و الطالح فابن تيمية صالح و بن عربي كافر؛ أقاموا أنفسهم مقام الحكم العدل فأدخلوا السلف جنة و نارا، بل تدخلت مطابعهم الحديثة في كتب الفقهاء العظام فزوروها تحت اسم التنقيح والشرح والتحقيق وحذفوا منها ما يخالف هواهم وهو في كل الأحوال فقه يتجدد و يتغير ولسوف يبقي دين الله ويستمر وتبقي شريعته حيه و شريعتهم إلي زوال. أنهم يتوعدون مخالفيهم في مصر بالقتل والتنكيل تحت اسم الشريعة ويقتلون الأبرياء في سوريا تحت اسم الشريعة، وأقل القليل في دينهم هو رمي الناس بالكفر الذي يتصورون أنه مرادف لليسارية والعلمانية والليبرالية وكل من علي مذهب غيرهم كافر أيا كان دينه أو ملته أو هكذا علمهم أسيادهم من رموز الجاهلية الجديدة الذين يسمون أنفسهم علماء و حقيقتهم أنهم زعماء قبائل المذهبية الدينية الحديثة. نعم، نحن نكفر بدينكم يا أصحاب الدين الجديد؛ نؤمن بالدين الذي يحرم القتل و يجرمه.. و يحرم الجرح والضرب والسب ورمي المحصنات والكذب وقول الزور، نؤمن بالرسول الذي خلقه القرآن و نكفر برسلكم الذين باعوا عقولكم للشيطان. لسنا من قبيلتكم فهل سنتعرض لغزو قبيلتكم باسم الفتح الإسلامي الجديد؟، هل العبيد الذين سبي أسيادكم عقولهم جاهزون للزود عن شياطينيهم وشياطينكم تحت راية الدين؟ حتي يحين موعد غزوتكم سنجتهد بما لا يخالف قواعد ديننا أن نصلح دنيانا وسنجاهد لبناء دولة قوية تحمي قيم الدين و كل القيم الإنسانية التي تتفق مع تعاليم الدين و سنقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر و لو كان من قبيلة من أبناء عمومتكم.