هذان الاختياران, اللذان ينطبق عليهما وعن حق المثل القائل (خياران أحلاهما مر) والتى خيرت المحروسة بينهما على مر قرون طويلة حكم قادة الجيوش للبلاد والذى أخذ فى الظهور مع ظهور فكرة الدولة فى عصر الفراعنة القدماء, وربما رجع ذلك إلى ثقة العامة فى قائد الجيش كونه هو المنوط بحمايتهم وحماية حدود الدوله المصرية ضد هجمات الأعداء, وعزز وجود مثل هذا النوع من الحكم وكما نسميه حديثاً (حكم العسكر) الفترات التى عاشتها مصر على مدار تاريخها من استعمار خارجى وهجمات على حدودها, مما جعل الاهتمام بالأمور العسكرية فى المقام الأول من اهتمامات الدولة وبالتالى حظي قادة الأمور العسكرية هم أيضاً بالمقام الأعلى فى الدولة ليصل إلى (حاكم الدولة) وإن اختلفت المسميات فتارة (فرعون) وأخرى (إله) وأخرى (خليفة) وأخيراً (رئيس) ) النوع الأخر من الحكم الذى لم يعلن عن نفسه صراحةً لكنه قائم وله تواجده المؤثر فى ساحة صنع القرار هو حكم كهنة المعبد والمسمى حديثاً ( بالحكم الدينى), ولا ينكر أحد أن وجوده فى مصر ليس بالقدر الذى يمكن تجاهله منذ عصر الفراعنة القدماء متمثلاً فى وصايا كهنة المعبد للفرعون الحاكم والتى قد تصل إلى الأخذ بآرائهم فى أمور الغزوات والمعارك وحتى الخلافة الإسلامية لكن مع دخول الإسلام لمصر تطور هذا النوع من الحكم ليشمل أولاً المضمون ثم الشكل, فلم يعد الحكم الدينى هذا المستبد القمعى أو الرافض للحداثة والتغير ولم يكن بالشكل التى عاشته أوروبا فى عصورها الوسطى من سيطرة الكنيسة على مجريات الحكم ومحاربة العلماء وغير ذلك. بل كانت العصور الأزهى للعلم والعلماء المسلمين العرب الذين كانت لهم الريادة فى علوم الطب والفلك والرياضيات والفيزياء ولا أجد أروع من تلك الكلمات التى أوصى بها الحجاج بن يوسف الثقفى لطارق بن عمرو حين قال له: "لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل، فهم قتلة الظلمة وهادمى الأمم، وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها، وما أتى عليهم قادم بشر إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب،وهم أهل قوة وصبر وجلدة وحمل, ولايغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه،فاتق غضبهم ولا تشعل ناراً لا يطفئها إلا خالقهم، فانتصر بهم فهم خير أجناد الأرض واتق فيهم ثلاثاً، نساءهم فلا تقربهن بسوء وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها، أرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم، دينهم وإلا أحرقوا عليك دنياك, وهم صخرة فى جبل كبرياء الله، تتحطم عليها أحلام أعدائهم وأعداء الله". فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 خرج بعض المنظمين لبعض المسيرات التى تندد بممارسات بعض رجال الشرطة تجاه المواطنين ولم تكن بوادر ثورة قد ظهرت بعد ولكن قدّر الله لها أن تكون وأن يُقتل فى سبيل ذلك المئات ويختفى الآلاف ويفقد آخرين أبصارهم بعد حملة تشويه طالت منهم من استطاعت, لكن لم يتطرق أحد منهم قط إلى شكل الدولة التى أرادوها فكانت الشعارات تنحصر بين الحرية والكرامة والعيش والعدالة, إلا أنه وبعد نجاح الثورة فى خلع رأس النظام المتمثلة فى رئيس الجمهورية ظهرت العديد من الأصوات التى تنادى بدولة دينية تحت شعارات (إسلامية) مقابل آخرين يؤيدون بقاء دولة العسكر والرافضين بشده لشعار ( يسقط حكم العسكر) ) المشكلة اليوم لم تعد الاختيار فقط بين الحكم الدينى والحكم العسكرى بل امتدت لتشمل أيضاً وضع تعريف محدد لكل منهما, فكم المصطلحات الرنانة على أذان العامه طوال الوقت جعلت كل منهم يفسرها على طريقته ليصل الأمر بأحدهم بتعريف (الليبرالية) على أنها خروج والدته بدون الحجاب. فالحكم الدينى المتمثل فى (إسلامية) لم يعد ذلك الذى نعرفه من مواقف النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أو الذى نرغب فيه بكل ما أوتينا من قوة, ونشتهى سماع سلوك خلفائه وسط حسراتنا على حالنا اليوم فتارة نسمع عن عمر بن عبد العزيز الذى قال أنثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين وبيننا من لا يجد قوت يومه وإن وجده كان وسط القمامة وسط لعنات الجميع على قذارته التى تشوه صورة الشارع, ورائحته الكريهة التى تزعج المارة. وتارةً أخرى نجد قصة على بن أبى طالب وعمر بن الخطاب, حينما شكا يهودي علياً بن أبي طالب رضي الله عنه فذهب إلى القضاء, وكان القاضي هو عمر بن الخطاب في أيام خلافة أبي بكر الصديق, فقال عمر لعلي اجلس بجانب خصمك يا أبا الحسن, فغضب علي بن أبي طالب غضباً شديداً رؤي في وجهه, وقضى عمر بين اليهودي وبين علي , وأخد اليهودي حقه, ثم قال عمر لعلي يا علي أغضبت لتحقيق العدالة ؟!!! قال علي لا, ولكني غضبت لفواتها فقال عمر كيف ذلك؟ قال علي: لقد ناديتني بالكنية فقلت يا أبا الحسن, والكنية تكريم وناديت خصمي باسمه المجرد, فأين العدالة يا عمر؟ فى الوقت الذى يصر فيه البعض على لفظ كلمة (سيادة) قبل كلمة الرئيس ثم اسمه, ولا أعلم مدى صحة الأخبار التى كانت تتطاير على مسامعنا من ضرورة وضع بند فى الدستور ينص على أن السيادة لله وليست للشعب, ولا أعرف أيضاً موقف المنادين بها من لفظ (سيادة) التى تسبق اسم الرئيس. أيضاً الحكم العسكرى لم يعد يعنى هؤلاء المحاربين الشجعان قادة الحروب والفتوحات والغزوات, ولم يتبقى منه سوى العنف لا الحزم والكبر لا الكرامة والقسوة لا الرحمة. ولنكن واقعيين بعض الشئ ففى ظل غياب معارضة قوية وبدائل على مستوى الحدث لن تخير مصر سوى بينهم ما دامت, اللهم إلا إذا أصبح عندنا معارضة قادرة على تحريك وعى الشارع لمطالبها وحشده للموافقة عليها. , ونظراً لعدم توافرها حتى الآن فنحن نعانى من دوران فى نفس الدائرة المفرغة, ثورة شعبية على حكم العسكر تطيح به لتضع مكانه حكم دينى ثم تسعى لإنهائه بانقلاب عسكرى يعيد حكم العسكر وهكذا. فمنذ الفراعنة وحتى الآن تكمن كلمة السر فى معارضة مدنية ( لاعسكرية ولا دينية) قوية حكيمة وإلا ستظل المحروسة دائماً تخير بين العجلات الحربية أو كهنة المعبد. Comment *