قديماً قالوا: "لا دخان بدون نار".. وقالوا أيضاً: "النار لا تخلف إلا الرماد"، وما بين دخان لنار كامنة تحت سطح الأحداث، وبين ما هو أفدح من رماد قد تخلفه تلك النار اذا اندلعت فوق السطح، لا مناص من وقفة جادة في لحظات تاريخية قد تتحول فيها نميمة وإرهاصات وطبول الحرب القادمة من بعيد إلى رائحة أجساد متفحمة وبقايا أوطان قسمتها أيادي أصحابها، وقدموها فريسة سهلة على طبق من فضة للفوضى والتدخل الأجنبي، وفي وديعة تاريخنا القريب ما ينذر من بودار هذا السيناريو، ويبث الرعب من تكرار عراق جديد لكن هذه المرة بأيد عربية وتخطيط غربي محكم، فيما لم نعد نمتلك في تلك اللحظة التاريخية سوى قدرات حواس الحشرات والحيوانات على التنبؤ بوقوع الزلازل دون حيلة لمنعها. يناجي المرء نفسه بتلك المخاوف، وقد تابع عبر موجز أنباء القوم تسريبات عن توجه حكومة الإخوان المسلمين في مصر لقيادة تدخل عسكري عربي في سوريا لإنهاء أزمتها المتفاقمة، ورغم نفي مستشار الرئيس المصري لتصريحاته التي نقلتها وكالة أنباء الأناضول والتي لا من غير المعلوم صفتها الاعلامية التي تمنحها السبق الاخباري في أخبار رسمية مصرية إلا أن هذا التسريب أو جس النبض أو بالون الاختبار (أو سمه كيفما تشاء) قد ينسجم لحد بعيد مع المقترح القطري بتدخل عسكري عربي في سوريا ويتواكب مع زيارة مرسي إلى تركيا، لتتعمق علامات الاستفهام حول ذلك الفوران الذي يجري تحت سطح الأحداث. ولعل مثل هذا الخاطر حتى لو جاء كحديث عابر قابل للتفسير أو الايضاح أو التعديل، يعتبر كارثة حقيقية بكل المقاييس، ولا أبالغ اذا قلت أنه اساءة سيكتبها التاريخ بحق مصر تحت حكم مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، فقد يغض التاريخ الطرف ان اراد عن تنازل مرسي عن دور مصر التاريخي المفترض، وعدم القيام بدور سلمي حقيقي وغير تقليدي في حل الأزمة بفضل انحياز نظامه الجديد لمعسكر الشاجبين المنددين المطالبين برحيل الأسد، وسقوط ورقة مبادرته لحل الأزمة (واقعياً) بعد كسره جسور التواصل مع أحد طرف رئيسي وفاعل في الأزمة.. لكن هل سيغفر التاريخ وضمائر المصريين لنظام الاخوان اقحامهم لمصر وجيشها إلى مغامرة خارجية في غرفة مظلمة تصوب فيها النيران مصرية الى أحشاء سورية على غير بينة، والتحالف مع مجموعات مسلحة أياً كانت لافتاتها ومسمياتها، وهل سيغفر التاريخ أو يرضى المصريون بسقوط سورياً نهبا للفوضى وفريسة للتقسيم ومآلا ومأوى خصباً لجماعات الإرهاب. يقيناً الخاطر لن يكتمل، والبذرة ستموت في الرحم الذي تلقى نطفتها، لان من يحاول غرسها لم يفهم بعد أن شعباً أطاح بالمخلوع مبارك وحطم أسطورة توريث كان أمراً واقعاً لا محالة وتنفيذه مسألة وقت، هو الشعب عينه الذي يتفهم بفطرته الذكية أن كامب ديفيد التي أبعدته عن محيطه العربي ويصر قادة اليوم على عدم تعديل بنودها الأمنية لن تواصل نجاحاتها لتحول نيران جيشه إلى حيث تكون آخر معارك (سايكس بيكو الجديدة) مهما كان حجم الأخطاء أو شرور التعتيم الحاصل. ومع هذا اليقين فإن وراثة مرسي ونظام الاخوان الناشئ لتوجهات وأولويات السياسة الخارجية لنظام الحزب الوطني المنحل، ومحاولاته لصرف الأنظار عن استمرار سياسات لجنة سياسات الوريث جمال مبارك وإخفاق مرسي في الوفاء بالتعهدات التي قطعها على نفسه خلال ال100 يوما من فترة رئاسته، فإن التطورات الأخيرة تطرح ما هو أبعد من ذلك لتصب في خانتي معضلتان رئيسيتان لحكم الإخوان المسلمين في مصر، واللتان تجعلان مشاريعها الداخلية وطموحاتها الخارجية في مهب الريح: الأول: ولن أمل تكراره، أن الأخوان المسلمين تحركهم بواعث خفية لا أعلم من أين لهم بها تزين الاعتقاد بأنهم هبطوا على سطح كوكب الأرض في أزمنة جيولوجية قديمة ليحكموا كائناته البدائية والتي ما عليها إلا السمع والطاعة، ورغم ما يرددوه دائماً من آراء سطحية حول تاريخ مصر وحضارتها القديمة والمعاصرة، إلا أن جوهر بيانهم لا يكشف عن أدنى استيعاب أو فهم لذلك التاريخ وتلك العبقرية الحضارية بخصوصيتها، فلم نسمع مثلاً أحد قادتهم متحدثاً عن كتاب (شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان) للعلامة جمال حمدان، بل كان المعلم الفكري الأبرز هو ترديد سطور من مأثورات (معالم في الطريق) للسيد قطب وأدبيات أبو الأعلى المودودي وابو الحسن الندوي دون إسنادها لأصحابها على سبيل (التقية). الثاني: أن الإخوان المسلمين حكام مصر الجدد لم يبارح أذهانهم هاجس الدين كخصم وليس عامل ترسيخ وتقوية للاعتبارات القومية الأصيلة، فما تزال أسبقية المسلم الماليزي والتركي أسبق من على غير الملة في مصر وليس في بلاد العرب، وفق ذلك يكون من الطبيعي أن تتفتت قيم اللغة والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، وتهون اعتبارات الدم والنفس والمال والقضايا المصيرية الكبري، وذلك في مقابل أحلام دانية قطوفها ووارفة ظلالها تحت شجرة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي باركت حكمهم وتوجته بأكاليل الغار انتظاراً لدفع استحقاقات الفاتورة المثقلة. على ذلك، ووفق لكلا المعضلتين، فإن القدر المتيقن من الحقيقة حتى الآن أن الاختيارات السياسية للاخوان لن تخرج عن صندوق التخبط في الآداء السياسي، وسيحكمها النظر للالتزامات والتفاهمات والطموحات وربما المغامرات أكثر منها الاعتبارات والضرورات والأولويات الحاكمة لمصلحة جموع المصريين والأمن القومي العربي، ولن يلجمهم في ذلك الا شعب يعتمر بأسباب القوة والمنعة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وان اختبرهم بالحكم أو حتى جدد فيهم الثقة. Comment *