تبرز الأدبيات السياسية مسعى أهل الاختصاص لتكريس صورة ذهنية خاصة للحاكم فى الوعى والتصور الجمعي، المبتغى منها، تلميع صورة الحاكم، وخلق شعبية له، مستخدمين فى ذلك كافة الوسائل المتاحة والمصطنعة. يصدق هذا فى الشرق والغرب، دول نامية وآخرى متقدمة. ويجسد الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، على سبيل المثال، لا الحصر، أنموذجاً صارخاً لهذه الصناعة، حيث تحول من ممثل مغمور، إلى واحد من أكثر رؤساء الولاياتالمتحدة شعبية. وفى كثير من البلدان العربية، كان الحرص على أن يسبق وصف الرئيس كلمات ذات إيحاءات معينة ، على شاكلة: الملهم، الزعيم المفدى، الرئيس المؤمن، وغيرها. وهذه صناعة متقنة، غير أن المبالغة فيها قد تسفر عن نتائج عكسية تضر بالحاكم أكثر مما تفيده. وفى الحالة المصرية الراهنة، وبخاصة فى أثناء المنافسة الانتخابية، وبعد وصول محمد مرسى، مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسى لحركة الإخوان المسلمين، لمقعد الرئاسة، كأول رئيس منتخب بإرادة شعبية، بصرف النظر عن الجدل الذى أثير حول ملابسات إعلان نتيجة الانتخابات، التى كانت بنسبة ضئيلة من مجموع إجمالى من لهم حق التصويت، عكفت دوائر عديدة تنتمى لتيار الإسلام السياسى على شن حملة دعائية ضخمة ورهيبة، بكل ما توافر للماكينة الإعلامية لهم، على تعمد إصباغ صفات ومسميات للرئيس الجديد تقرب من القداسة، من عينة أن نجاحه جاء استجابة لمشيئة آلهية، وخلق علاقة سببية بين هذا النجاح، ونجاح شرع الله وتطبيق الشريعة الإسلامية ، وإقامة حدود الله فى أرض الكنانة ، بل وتمادت فى أظهار مدى تدين الرئيس وتقواه، متعمدة تصويره فى كل صلاة يؤديها ، وتوظيفه شخصياً فى كافة المناسبات الدينية ذات الرمزية والدلالة ، فى هذا السياق ، بل وصلت المبالغة فى كثير من الأحيان، خاصة قراراته المتعلقة بتقاعد كبار قادة المجلس العسكرى الحاكم "بأنها فتح جديد لمصر يضاهى الفتوحات الإسلامية الكبرى، وأن المؤيدين لمرسى" أشيه بالمهاجرين والأنصار، ومن عارضوه هم الكفار الذين وقفوا ضد الدعوة والرسالة"، وغيرها من الأوصاف التى تستخدم فى غير سياقها . والحقيقة التى لا مراء فيها، والتى تعمدت هذه الابواق تجاهلها وتناسيها، أن الذين انتخبوا الرئيس مرسى، وحتى الذين لم ينتخبوه، أو امتنعوا عن الذهاب لصناديق الاقتراع، لم تكن توجهاتهم وتفضيلاتهم، تتجه لانتخاب إمام مسجد أو زاوية، يحرص، كما يصورون، على إقامة الفروض والشعائر الدينية فى مواعيدها، أو كخطيب مفوه يلقى الخطب الرنانة فى المناسبات الدينية، وحتى هذه الوظائف لها أهلها من العلماء والمشايخ المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة. وفات على هذه الأبواق والمريدين ابسط البديهيات، وهى أن محمد مرسى هو من قيادات جامعة الإخوان المسلمين البارزين ، تربى فى كنفها سنوات عديدة من عمره، ومن ثم فهو يجيد أداء الفروض والشعائر وفن الخطابة، وبالتالى لا جديد فى ذلك، ولا يستحق كل هذه "الزفة" "والضجيج الإعلامى". وفى واقع الأمر، فقد كانت المنافسة الانتخابية لاختيار رئيس جديد للجمهورية الثالثة، فى سياق ثورة شعبية سلمية أطاحت بالنظام السابق، وتطلعت لتأسيس نظام جديد يجسد ما قامت الثورة من أجله، ويحقق على أرض الواقع، شعاراتها الكبرى، من حرية وتغيير وعدالة اجتماعية. وبالتداعى المنطقى، فما يهم المواطن العادى، فى المقام الأول، هو أداء الرئيس، وبرنامجه ، وقراراته، وسياساته، ذات الصلة الوثيقة بحل معضلات وهموم ومشكلات الواقع الراهن، وفى هذه المرحلة الفارقة، ومدى ما يستشعره الناس من تحسن فعلى، حتى ولو بصورة تدريجية، فى هذا الواقع المعاش، سواء صورت الأبواق الإعلامية حقيقة أن الرئيس يواظب على أداء الفروض والشعائر، من عدمه . ويدرك المزاج الشعبى العام أن الرئيس مرسى لا يملك عصاه سحرية تحقق كل الطموحات، وثورة التوقعات المتنامية، بين ليلة وضحاها بل يحرص على أن تكون الرؤية واضحة، وفى المسار السليم، وأن التصويب يكون دوماً فى دائرة الهدف، وليس خارجها، حيث لا يملك الشعب رفاهية هدر الوقت والجهد، ويرفض، بصورة قاطعة ، عدم إنجراره فى قضايا هامشية، ومسائل فرعية، لا طائل منها، ولا جدوى. ومن نافلة القول، أننا نملك جميعا حق انتقاد أداء الرئيس لتحقيق هذه الطموحات، وهو حق دستورى أصيل، بهدف تصويب المسار بما يحقق المصلحة العليا للوطن، وكل مواطنيه، وليس لمصلحة قوى تيار الاسلام السياسى. فالأصل أن الرئيس هو موظف عام، يتولى شئون إدارة البلاد، ويتقاضى راتباً عن ذلك، ويقيم مجاناً فى قصر الرئاسة. وبالتالى لا يملك أحد مصادرة هذا الحق، بوصف ذلك بكونه بمثابة خروج عن شرع الله، أو معارضة مشروع مرسى الاسلامى، كما يحلو لمريديه تسميته، ذلك أن الشعب، بكل أطيافه، مسلمين ومسيحيين، يتعامل مع الرئيس كحاكم لدولة مدنية ديمقراطية حديثة ودستورية، وليس باعتباره "الحاكم الخليفة المؤمن"، وعدم إصباغ قداسة غير مبرره على أداء الرئيس، فهو بشر مثلنا، يخطئ، ويصيب، ولا يتوجب وصف انتقاده، فى أى مجال، "بإهانة الرئيس" وكأنها ردة لعصر العيب فى الذات الملكية، يتبارى من يجندون أنفسهم لأداء هذه المهمة، أيا كانت دوافعهم، فى تقديم بعض من انتقدوا الرئيس للمحاكمة من شخصيات صحفية وإعلامية، والحبل مازال على الجرار. والقول الخاتم، أن التجربة الديمقراطية الوليدة، لحداثتها، بحاجة إلى مساحة كافية ورحبة من حرية التعبير والرأى، وليس لمخالب شرسة، تحت مسوح دينية، تنهش فيها، ذلك أن الشعوب تتعلم فى مضمار الممارسة الفعلية عشرات أضعاف ما تتعلمه فى الكتاتيب السياسية. دكتوراه فى العلوم السياسية Comment *