شغلت مساءل حرية العقيدة والاعتقاد، وحق ممارسة العبادات وقتًا طويلاً لأعضاء اللجنة التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور القادم للبلاد، حيث تفتق ذهن "اللجنة" عن الاعتراف بالأديان السماوية الثلاث وحدها، والسماح لمعتنقيها ممارسة شعائرهم، متناسين بقية الأديان الأخرى "البهائية نموذجًا"، كما اقترح عضو اللجنة التأسيسة للدستور يونس مخيمون، أن تكون السيادة لله وليس للشعب, مما حدا ببعض القوى أن تصف هذه الاقتراحات ب"مقترحات العبث بالدستور". في الوقت نفسه، وللمصادفة التاريخية، أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن مشروع مكتبة الأسرة، كتاب "الحرية الدينية في الإسلام" للعالم اللغوي والأزهري عبد المتعال الصعيدي، والذي يتناول فيه مفهوم الحرية الدينية بين التوحيد والوثنية، والحرية الدينية في الإسلام، والحرية الدينية في المرتد عن الإسلام. والصعيدي "1895- 1971" واحد من علماء الأزهر الشريف، وعضو مجمع اللغة العربية، ولد في قرية النجباء بالدقهلية، درس في الجامع الأحمدي بطنطا، ثم اكمل تعليمه في الأزهر، وأصبح أستاذًا بكلية اللغة العربية، اشتهر بأنه صاحب منهج إصلاحي في التعليم والفكر والتجديد الديني، تتجاوز مرلفاته ستين عنوانًا. في بداية الكتاب والذي يتكون من 160 صفحة من القطع المتوسط، يربط "الصعيدي" بين "التوحيد" والحرية الدينية من جانب، و"الوثنية" والاستبداد والاستبعاد الديني من جانب آخر، مؤكدً أن الوثنية دين الاستعباد والاستبداد من طغاة البشر لضعفائهم، وهؤلاء الطغاة يفرضون عبادة أنفسهم وأوثانهم على الناس، فأخذ الناس بؤسائل القوة وإكراههم في عقائدهم هو الوثنية ذاتها. ويتطرق المؤلف إلى قضية الجزية، والتي يفند كل أصولها، ففي نظره، لم تجب الجزية على الناس لكفرهم بل لحرابهم، فلهذا لم تجب على "النساء" و"الذراري" ونحوهم ممن لا يصلح للحرب، وهذا يفيد أن الجزية ليست إلا غرامة حربية وأنها لا شأن لها بكفرهم، فلا يكون لها تأثير في تركهم له، ولا يكون في فرضها عليهم أدنى وسيلة لحملهم على الإسلام، لأن الإسلام أكبر من أن يغري الناس على دعوته بالمال، يأخذه من غيره باسم الجزية، فإذا أسلم لم يأخذه منه، لأنه إذا أسلم أخذ منه الزكاة، وهي ضريبة تصاعدية تبلغ ما لا تبلغه الزكاة. ويشدد صاحب "القضايا الكبرى في الإسلام" على أن الجزية تكون على من قاتل المسلمين فحسب، ولا يصح أن نقاتل من لم يقاتلنا لنأخذ الجزية منه، وإذا قاتلنا من قاتلنا منهم فإنه لا يجب أن نمضي في قتاله إلى أن نهزمه ونأخذ الجزية منه، بل يجب علينا أن نكف عن القتال إذا كف عنه وطلب موادعتنا، ولا يجب أن نأخذ منه جزية في موادعتنا له. ولذلك قيمته في عصرنا الذي يقدس حرية الاعتقاد، ويرى أنه لا يصح أخذ الناس فيه بشيء من وسائل الإكراه. فإذا أخذنا به في الإسلام بعدنا به عن توجيه مطعن من مطاعن عصرنا إليه، وبعدنا به عن المخالفة لذلك الأصل –حرية الاعتقاد- الذي تأخذ به الآن جميع الأمم، وتضعه ابتداء دساتيرها، ليعيش الناس أحرارًا في عقائدهم، ولا يكون لأحد سلطة عليهم، ولا يكون هناك حساب على العقائد إلا حسابه تعالى في الآخرة، فمن شاء آمن بهذا الحساب ومن شاء لم يؤمن. ولا يكتفي الصعيدي بذلك، وإنما يذهب بنفسه إلى أدغال الرؤية التقليدة الجامدة، حيث يرى أنه لا عقاب لمرتد عن الإسلام، ويقول: ثبوت الحرية الدينية للمرتد هو مذهبي الجديد فيع، وعليه لا يكون هناك فرق في الدعوة بين المرتد ومن لم يسبق له إسلام، فكل منهما يدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، وكل منهما يكتفى بدعوته مرة واحدة، ولا يلزم في المرتد أن يستتاب أبدًا كما ذهب إليه النخعي وغيره ممن يقول بالاستتابة الدائمة. ويرى الصعيدي أن دوام الاستتابة يترتب عليه الزام المرتد ووضعه تحت قيد الإقامة "الجبرية" وهو ما يتنافى مع مبدأ حرية العقيدة. ودليل "المؤلف" على رأيه هو اجماع المسلمين على اشتراط الاختيار في صحة الإسلام، فهو شرط في صحة إسلام كل شخص سواء أكان ممن لم يسبق منه إسلام أم كان ممن سبق منه وارتد عنه، وحينئذٍ لا يصح أخذ المرتد إلى الإسلام بالإكراه. ويضيف، الإسلام لا يكفي فيه نطق اللسان؛ بل لابد في صحته من إقرار القلب فيه. كما أن شرط الاختيار يجب أن يكون في الدوام كما يجب أن يكون في الابتداء، كشرط الطهرة في الصلاة ونحوه من الشروط، ولا يحق لأحد أن يسلب مسلمًا هذا الحق، فهو حق إلهي لا يستطيع أحد منازعته. "الحرية الدينية في الإسلام" كتاب يأتي مع ما اتفقت عليه الشعوب جميعًا، وشرعته في دساتيرها الحديثة على حرية الاعتقاد، إذ أثبت فيه بأدلة عقلية ونقلية تقبل النقاش أن الحرية الدينية في الإسلام عامة ومطلقة لا تقييد فيها، وليكون له بها فضل السبق على مشرعي عصرنا فيما شرعوه من حرية الاعتقاد، وهو فضل للإسلام عظيم الشأن في هذا الزمان. Comment *