تقول الأغنية التراثية: (يمامة بيضا.. ومنين أجيبها.. طارت يا نينة.. عند صاحبها).. طارت اليمامة الأسبوع الماضي، ذهبت في الطائرة العسكرية.. أنهت تعسفيا معركة “تحرر مصر وسيادتها”.. وتركتنا لنتساءل إن كانت هذه المعركة حول كرامة الوطن، العمالة لأمريكا، سيادتنا الوطنية، ورفض التدخل الأجنبي في هذا البلد، الذي لا يركع.. قد انتهت لأنها استنفدت أهدافها؟ أم أنها أنهيت بهذا الشكل المرتبك، لخطأ ما؟ أم أن الأخوة الأشقاء في المخابرات الأمريكية، الذين يحددون للمجلس العسكري كل خطواته وسياساته، قد أمروه باغلاقها بهذا الشكل، لغرض ما؟ فلنترك اليمامة لتطير براحتها، ونبقي هنا لنتساءل عما يجمع بين المشير طنطاوي ومصطفي بكري والمستشارة تهاني الجبالي. هل السمة المشتركة هي الجعجعة؟ أم أن هناك سمات أخري؟ في عام 1991، خلال حرب الخليج الأولي، كان أحد زملائنا في جامعة عين شمس، يعمل في جريدة مصر الفتاة. وكان مصطفي بكري يدير هذه الجريدة، بالإضافة لعمله كمراسل لإذاعة مونت كارلو من القاهرة. كنا نقوم بتنظيم المظاهرات المناهضة لحرب الخليج، وللمشاركة المصرية فيها، داخل جامعتنا، وكانت أضعف من نظيراتها في جامعات أخري. إن شارك في أحدها، علي سبيل المثال، ألف طالب، كنا نتصورهم ألفين، بسبب الحماس، وبسبب القليل من المبالغة الشبابية. فيقوم زميلنا الصحفي بإبلاغ مصطفي بكري بهذا الرقم. فنجده في المساء، يعلن عن مظاهرات شارك بها أكثر من خمسة آلاف طالب.. خرجوا للشوارع.. اصطدموا بالأمن.. ومازالت المعارك جارية بين الأمن والطلاب!!! بينما نحن قد وصلنا لبيوتنا منذ ساعات طويلة. وكان كل هذا مصاحبا لأغنية فيروز: بكرة لما بيرجعوا الخيالة. وأحيانا ما كان يختلط صوت مصطفي بكري مع صوت ياسر عرفات، مناديا: يا صدام يا جبل ما يهزك ريح. أو بصوت القذافي مهددا الولاياتالمتحدة والجميع بأنه سيفجر الثورة العالمية، التي لم تنفجر أبدا. هل كان مصطفي بكري وطنيا متحمسا، ومبالغا مثلنا؟ لم نكن نفهم وقتها هذه الشبكة الجهنمية من العلاقات، من ليبيا، إلي العراق، مرورا ببعض دوائر المخابرات المصرية.. دون إغفال البيزنيس، والنجومية، والأسباب التي تدفعك لأن تحني رأسك، فيما بعد، أمام جمال مبارك. فالبحث عن سيد، أو ممول، هي رغبة مشتعلة، أكثر قوة من الجنس، تلتهب داخلك، إن لمستها ولو مرة واحدة. علي نفس الناصية، تقف السيدة المستشارة تهاني الجبالي، التي لا يمكن اتهامها بالفساد المالي. لكنها لا تنام الليل بسبب القلق علي هيبة الدولة، وتماسكها. مرعوبة من المؤامرات التي تهدد “دولتها”، ويتم استخدام أطفال الشوارع كأداة بها – هذا ما قالته وقت أحداث القصر العيني ومجلس الوزراء – فتعجز عن فهم خطاب المستشارة، إلا عندما تلاحظ أن هذه الدولة تضيق تدريجيا، فتصبح في نسختها الأخيرة المشير ومجلسه العسكري. سيادة القاضية لا تنسي بالطبع، وبحكم وظيفتها، القضاء المصري الشامخ، المستقل، والنزيه.. فتراه إحدى الدعامات القليلة الباقية من هذه الدولة. وقد أصابت، فهاهم أطفال الشوارع، وليس المشير طنطاوي، قد دمروا الدولة، انتهكوا القضاء واستقلاليته ونزاهته.. ورموا كل هذا في الزبالة، في اللحظة التي طارت فيها اليمامة عند صاحبها. المستشارة مثقفة، وتتحدث بلباقة.. وهو ضروري. أما النائب متعدد الوظائف، فهو شعبوي.. يقول أي كلام، ويتواءم كلامه مع أي موقف. هو عبارة عن ميكروفون زاعق بلهجة صعيدية. يقوم بتعطيش الجيم افتعالا، كي يصدقه البسطاء في هذه القري البعيدة، ويرونه ابنهم البار، فلا يسألونه عن علاقاته السابقة بالقذافي أو بصدام حسين أو بجمال مبارك. لا تجعله الثورة ينكمش، بل يتمدد أحيانا، ليغازلنا نحن، أبناء المدن. فيشهر وطنيته ودماثته، أثناء حواره مع الرويني، حين يبدأ الأخير في الهجوم علي تميم البرغوثي، مصححا له: (سيادة اللواء.. الشاعر تميم البرغوثي هو مصري، هو ابن أستاذتنا الأديبة رضوي عاشور، وشاعرنا الفلسطيني مريد البرغوثي!!!).. في خلطة فريدة من الدماثة، والشهامة، والثقافة، والبعد القومي العربي الجعجعة “الوطنية” هي أحد الجوانب المشتركة بين مصطفي بكري وتهاني الجبالي. لكن المشير لا يشاركهما هذه الصفة.. هو صامت، لا يتحدث، وإن فعل فتكفيه كلمات قليلة مضطربة وخافتة.. يحتاج لمن “يجعجع” له.. يحتاج للموظفين، ممن يرونه كسيد، مثلما كان حاله هو شخصيا مع مبارك. سيادة المشير لا يملك أن نوع من أنواع الكاريزما، أو المواهب السياسية، كان يقف في الظل دائما، وراء السيد. لا يملك اللون أو الطعم أو الرائحة التي تجعله شبيها بعمر سليمان، علي سبيل المثال. أنه موظف وضعه مصيره وطموحه المهني في موقع المسؤول عن دفاتر الجيش، وليس السياسة. فالسياسة يلعبها الآخرون. ويأتي المصير مرة أخري ليجعله في لحظة ما واجهة للانقلاب العسكري، الذي استهدف إجهاض الثورة. أبواق الجعجعة المزعجة، لن تنتهي مبكرا، فدولة الاستبداد الفاسدة والهزيلة والمتداعية، تحتاجها لتدعيم الحالة الفاشية.. بالرغم من اعتقادي بأن المشير نفسه سيرحل قريبا، حين ينهي دوره في إعادة التماسك، النسبي، لهذا النظام، بعد الضربة الموجعة التي تلقاها. لم أصدق أبدا مزاعم ارتباك المجلس وحسن نيته. وأعتقد أنه كان واضحا للكثيرين منا، أن هذا المجلس بمشيره وبأعوانه هم مجرد أعداء، أو وكلاء للعدو، علي أقل تقدير. هم قليلو المواهب والخبرات للدرجة التي لا تجعلهم قادرين علي أكثر من لعب دور الواجهة، المؤقتة، لنظام لا يستطيع التماسك، والعيش من جديد، دون الارتباط بمصالح الشركات والاحتكارات الدولية الكبري والمشبوهة. إذا، ما الذي يجمع الثلاثة؟ هل تجمعهم حقيقة أن لكل منهم سيدا؟ لهذا تحديدا لا يمكن سؤالهم عن سبب تصنيع حادثة “اليمامة البيضا”.. أو عن السبب في تطيير اليمامة في هذا الوقت بالذات، وبهذه الطريقة التي فضحت ما يتم تسميته بهيبة الدولة والقضاء. هل نسأل المخابرات الأمريكية إذا؟ أم نسأل عمر سليمان وعمرو موسي؟ لنترك هذا السؤال الأخير، فهو موضوع تأملات شخصانية تالية. بمناسبة اليمامة، ربما وجب التذكير بالمثل الشعبي القائل: الحداية مبترميش كتاكيت. باسل رمسيس [email protected]