لو كان لكتاب التاريخ يدا لكان قد مدها ليمحى بها صفحات من الوحشية والقسوة سطرها العديد من الطغاة والمستبدين، استعملوا نفوذهم كحكام وملوك وأباطرة فى تعذيب شعوبهم وإذاقتهم ويلات الظلم والقهر والاستبداد. ويقف فى مقدمة هؤلاء نيرون، الإمبراطور الرومانى الخامس، من بعد أغسطس مؤسس الإمبراطورية، والذى حكم من عام 54 إلى عام 68 ميلاديا، وكانت فترة حكمه من أكثر الفترات عنفا ودموية فى تاريخ روما بسبب جنونه ومجونه، حيث لم يتورع يوما عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق أبناء شعبه، وعن قتل القريب والبعيد. ولد نيرون فى عام 37 ميلاديا، وكان والده من طبقة النبلاء، أما والدته فكانت الحفيدة الصغرى للإمبراطور أغسطس، وقد يكون نيرون قد ورث عنها ميوله الوحشية. توفى والده عندما كان طفلا صغيرا، وتزوجت والدته من الإمبراطور كلوديوس وهو فى الثانية عشرة من عمره، وبعد الزواج قام كلوديوس بتبنى نيرون، ثم زوجه من ابنته أوكتافيا. وصعد نيرون إلى عرش الإمبراطورية الرومانية وهو فى السابعة عشر من عمره، بعد أن قامت والدته بدس السم لكلوديوس الذى كان ضعيفا وينطق بفأفأة. وكانت السنوات الأولى لحكم نيرون معتدلة وتميزت بالاستقرار النسبى، نظرا لوجود معلمه سينيكا بجواره يوجهه ويرشده، ولكن بمجرد أن اشتد عوده، أخذت سلوكياته غير السوية فى الظهور فإنغمس فى الملذات، وسجن وعذب وقتل أبناء شعبه. ولم يقتصر هذا على الشعب فقط بل امتدت يده لتبطش بأقرب الناس إليه، فقتل أمه التى كانت الحاكمة الفعلية للإمبراطورية وأحرق جثتها، وقتل أخاه بريتانيكوس الذى كان الوريث الشرعى للعرش الرومانى، كما قتل زوجته أوكتافيا، وعقد العزم على قتل معلمه سينيكا بعد أن ضاق بنصائحه المستمرة له، ولكن عندما علم سينيكا بهذا، فضل أن يقتل نفسه على أن يُقتل على يد هذا الطاغية. وامتدت يد نيرون لتقتل القديسين المسيحيين بولس وبطرس زيادة فى بطشه وظلمه وطغيانه. وكان نيرون حاكما فاشلا فى إدارته لشئون الامبراطورية، وقد أدى أسلوب حكمه الفاشل إلى إغراق البلاد فى الفتن والاضطرابات، وزادت وتيرة الاغتيالات السياسية فى عهده إلى حد غير مسبوق، وطالت المؤامرات نيرون نفسه إلا أنه نجا من كل محاولات قتله. ويعد حريق روما فى عام 64 ميلاديا أعظم جرائم نيرون وأكثرها بشاعة، إذ تصور أنه يجب عليه أن يقوم بإحراق روما، وذلك من أجل بناءها من جديد بشكل أفضل، وبالفعل قام نيرون بإشعال النيران فى القاعدة الخشبية للسيرك الكبير بوسط المدينة لتنتشر بعدها النيران فى كل أرجاء روما، وتستمر مندلعة لأكثر من أسبوع حاصدة معها أرواح آلاف البشر من الرجال والنساء والأطفال، وقد دمرت النيران عشرة أحياء بالكامل، من أصل أربعة عشر حيا فى المدينة. والغريب أن نيرون كان يشاهد الحريق فى حالة من الهدوء والنشوة، حيث صعد برجا عاليا فى المدينة وجلس يتغنى بأشعار هوميروس التى يصف فيها حصار مدينة طروادة. كان نيرون عاشقا للمسرح والموسيقى ومعظم الفنون ولكن بطريقة غريبة. وكان يرى نفسه ممثلا ومغنيا رائعا، ولأنه الإمبراطور فلا يوجد أحد يستطيع أن يقول عكس ذلك. ووصل به الجنون إلا أنه كان يقفل أبواب المسرح ويحبس الجماهير بالداخل ويضع حراسة مشددة على الأبواب حتى لا يخرج أحد، ليؤدى ما يود من أعمال فنية طويلة جدا قد تمتد لساعات النهار بطوله، وعلى الناس رغم معاناتهم من الجلوس ومشاهدة تلك الأعمال المملة الطويلة أن يعلوا بالتصفيق والهتاف له فى كل مرة. وقيل فى إحدى الروايات عن قتله لزوجته أوكتافيا أنه عندما كان يؤدى دورا فى إحدى المسرحيات، وكان يمسك بيده صولجانا فسقط من يده، وقامت زوجته بمدح أدائه فى المسرحية وعلقت بقولها ولكن لو أنك لم تُسقط الصولجان، فكانت هذه الجملة هى نهاية أوكتافيا، فبادر نيرون بقتلها لتكون عبرة لغيرها، ولم يستطع أحد بعد ذلك أن ينتقد أى عمل يقوم به نيرون. وكان نيرون مجنونا فى البذخ والإسراف ولا يهتم أبدا بالمشاكل الاقتصادية التى تمر بها البلاد، وكل ما يهمه هو الحياة المترفة التى يعيشها. ومن ضمن أسباب سمعته هذه هو بناءه لقصره الفاخر فى روما، والذى كان مطعما بالذهب والعاج واللؤلؤ ومخصصا لكل أنواع المتع الحسية المتاحة فى ذلك العصر. وكان سقف هذا القصر يمطر على الحاضرين بتلات من الورود الجميلة باستمرار، بالإضافة إلى قطرات متواصلة من أجود أنواع العطور. وأمام القصر، كان ينتصب تمثال لنيرون عاريا بارتفاع سبعة وثلاثون مترا. وقد قام ببناء القصر بعد حريق روما مباشرة، فى الوقت الذى كان فيه الشعب أكثر احتياجا للمساعدة من أجل الخروج من تلك الأزمة العصيبة، وإعادة بناء المدينة بكاملها. وقد اتجهت أصابع الاتهام إلى نيرون بعد حريق روما، وتصاعدت حدة الرفض الشعبى لحكمه، فبحث عن كبش فداء ليفتدى به نفسه، فألصق تهمة الحريق بالمسيحيين، لأن وقتها كانت المسيحية تبدأ فى أولى خطوات الانتشار بين المجتمع الرومانى، ويوجد الكثيرين ممن يكرهونها ويفضلون بقاء الوثنية لضمان نفوذهم. فحشد الشعب من أجل هدف واحد، هو اضطهاد المسيحيين وسفك دمائهم وأزهاق أرواحهم، فكان يعذب المسيحيين ويقتلهم بتقديمهم إلى الوحوش المفترسة أمام أهل روما، فى مشاهد دموية بشعة، وتسميرهم على الصلبان وهم أحياء ثم إحراقهم بعد غياب الشمس ليستعملهم كمصادر للإضاءة فى الشوارع. سياسات نيرون الدموية والفاشلة، أوصلت جميع أفراد الشعب إلى السخط عليه والرغبة فى التخلص منه، فتم عزله وحُكم عليه بالقتل ضربا بالعصى، الأمر الذى أخاف نيرون ودفعه إلى الانتحار. وقيل فى بعض الروايات إنه أمر كاتم أسراره بقتله، وقيل أيضا إن الجنود انقضوا عليه فقطعوه بسيوفهم قطعا. وترك نيرون البلاد فى حالة انهيار اقتصادى وانحلال أخلاقى وفوضى عارمة فى كل أنحاء الامبراطورية الرومانية. هذا هو حال كل الطغاة والمستبدين على مدار التاريخ، فدائما ما يظن الديكتاتور أن سيطرته الأحادية على مؤسسات وأجهزة الدولة، ونسجه التحالفات مع النخب العسكرية والاقتصادية والثقافية فى مقابل الحماية وتقاسم العوائد، وممارسته الظلم والقمع لقهر جماهير الشعب وفرض الخوف عليهم، وإنزال العقاب العنيف فى حال عدم الامتثال لاستبداده، يظن أن كل ذلك سيضمن له البقاء الآمن فى السلطة، ولكن قراءة التاريخ تثبت عكس ذلك، فلكل ظالم نهاية وكثرة الظلم تولد الثورات. مخاطبا كل الطغاة الذين لم يتعلموا دروس التاريخ، كتب الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش يقول: يا دامى العينين والكفين، إن الليل زائل، لا غرفة التوقيف باقية، ولا زرد السلاسل. نيرون مات ولم تمت روما، بعينيها تقاتل، وحبوب سنبلة تجف، ستملأ الوادى سنابل.