أكره تحوّل الأفكار الجميلة إلى أيديولوجيّات، أن تتحوّل أجنحة الطائر إلى أُطُر تحد الأفكار والأحاسيس وتضعها في قوالب تخضع في النهاية إلى قواعد لباقة الحوار ودبلوماسيّة التقديم والصراعات والتوازنات في القوى. أحببت نسويّة "زُهرة"، الفلاحة الآتية من الريف هاربة من زيجة قسرية من مُسن فحملها القطار إلى الإسكندرية، حيث بنسيون "ميرامار". أحببت نسويّة زُهرة حينما قرأتها، أحببت سعيها إلى التعلّم والترقّي داخل ذاتها الطموحة واعتزازها بذاتها التي كان يسعى الجميع إلى دهسها، أحببت كل ذلك حينما قرأت رواية "ميرامار" التي خطّها قلم الأستاذ نجيب محفوظ، ولكنني حينما رأيتها بعيني لحمًا ودمًا… أحببت زهرة نفسها، أحببتها في شادية وأحببت شادية فيها ورأيت زهرة –كملايين رأوها من قبلي- بعين شادية الفنانة ذات الموهبة المُتفجّرة والنظرة الثاقبة والروح المجتهدة الشفّافة. طيلة الوقت لديّ قناعة بأن شادية إحدى أهم الممثلات في تاريخ السينما المصريّة، وهي التي لم تخطئ تقدير شخصية درامية سواء بالمغالاة أو التقصير. ولعل "ميرامار" هو أهم النماذج تلك، فهو الفيلم الذي لم يقدّم لنا المطربة شادية التي أتت لتغنّي وسط مشاهد تمثيليّة متقنة، لكن المخرج "كمال الشيخ" قدّمها هنا كممثلة جاءت لتتحوّل أمام الكاميرات إلى زُهرة… وما أجملك يا زهرة. لم تصرخ صرخة واحدة حينما صُدِمَت في حبيبها، رجل الاتحاد الاشتراكي الذي قال عن نفسه بأنه "لم يؤمن بالثورة قبلها أو بعدها، وإنما أثناء حدوثها" وهي عبارة لا تصدر إلا من منافق محترف وشغوف بالنفاق والوصولية. رجل سيصل على أكتاف الجميع بمن فيهم فقراء الوطن الذين يسعى إلى الاتجار ببضائعهم المدعمة في السوق السوداء، وكذلك بأحلام زهرة الفلاحة الطموحة التي لا ترتضي عن الحب بديلًا، والتي لم تملأ الدنيا صرخًا مع خيانته ولا نواحًا مع موته وإنما بهتت كل ملامحها وخفتت روحها كالسحر وهنا تجلّت شادية الممثلة ذات الثِقَل القارئة المجتهدة التي تتوحّد مع الشخصية التي تخرج من الورق متجسدة أمامنا كلحم ودم. الحقيقة أن فقدان الجمهور لشادية لم يأت حينما فارقت روحها أرض الأحياء، بل يوم اعتزالها الفن وحتى تلك الخطوة لم تتخذها بشكل تقليديّ، لم تقل كلمة واحدة تحط من شأن الفن كمن سبقوها وتبعوها في تلك الخطوة، بل أنها احترمت أيقونيّة وجودها في مخيّلة الجماهير واحتجبت تمامًا عن الأنظار والأسماع حتى سمعناها في مداخلة هاتفية عام 2011 بالتزامن مع قيام الثورة المصرية متحدّثة إلى برنامج العاشرة مساءً بلهجة الأم المتوجهة بالنصح للشباب والكبار على حد سواء بأن مهما كان ما يحدث لا يجب أن يصب فيما يضر بالبلاد، نصيحة أم أو جدّة مصريّة لا مصلحة لها مع أي جانب من جانبيّ الصراع. لا يمكن أن تصنّف بأي شكل من الأشكال. والحقيقة أيضًا أن الحديث عن شادية ليس حديثًا بسيطًا، فنحن أمام ممثلة غير مسبوقة المستوى، ومطربة لا يوجد صوت يشبه صوتها لا قبل ظهورها ولا بعد احتجابها حتى يومنا هذا، ولعل أحد أهم من أدركوا أبعاد ذلك الصوت ولعبوا بما يحمله من أنوثة وقوّة وعذوبة هو منير مراد، الذي لحّن لها "إن راح منّك يا عين" الأغنية التي اكتملت فيها مؤامرة الملحّن والمؤلف "فتحي قورة" والمطرب على صناعة جملة تجمع في لفظها وحركتها التوعّد والأنوثة والقوة باللحن والكلمة والأداء "ولا يهمّك يا عين، هايروح من قلبي فين؟"، ومما قدّم معها منير مراد أيضًا لحن "يا حبيبي عود لي تاني" على سلّم موسيقي خماسي في تيمة سودانية قدّمتها شادية باقتدار وصوت في قمة الجمال. ويأتي مع منير مراد أيضًا "محمد الموجي" الذي قدّم معها "غاب القمر" التي كانت عنوان ديوان الشاعر الكبير "مجدي نجيب" وهو أيضًا أحد أهم من كتبوا كلمات أغانيها. الحزن اليوم ليس حزنًا لانقطاع سيرتها الفنيّة كالآخرين، فإنتاجها توقّف باعتزالها الفن وسيستمر باستمرار الحياة وطالما هناك من يهتم بالفن مشاهدةً واستماعًا، وإنما ربّما كان وجودها على قيد الحياة يحمل القليل من الأمل أو رائحة من ماضٍ يحمل الكثير من الجمال، وقد حملت شادية الكثير والكثير من هذا الجمال الذي يحمله ذلك الماضي.