يقول ” جيته “ إن الإنسان كلما تقدم به العمر ازداد تقديره لقيمة المواهب الطبيعية لأنها من المُحال أن تُكتسب أو أن يلصقها الإنسان بنفسه )... و إنى لأطبق تلك المقولة على نفسى فى تقدير الموهبة الأدبية وأمارس تقييم النصوص السردية بحسب ذائقتى الأدبية فالسرد فن مألوف للبشر مثقفيهم وعاميهم.. وهو إحدى هبات الطبيعة لبعض أبنائها وكل منهم يعلو به ابتغاء الكمال قدر جهده .. وربما لا يتأتى لكثير من الكتاب الوصول لمبتغاه ولكن من الممكن أن يقترب منه غير أن ذلك لا يحدث غالبا فى أول عمل لهم . وتحدث طفرة كل حين بأن تكون باكورة إنتاج أحدهم تتميز بقوة الموهبة وتنوع ابتكار ما يدهشك ومزج للخيال بالواقع لتفاجأ بنسيج جديد يستحوذ على ذهنك ويدفعك لأن تعطى الكاتب حقه من التقدير مثل تلك المجموعة التى هى غرة المجموعات القصصية للكاتب ( محمد فاروق ) . سينما قصر النيل ) عمل أدبى صادر عن ( دار ميريت للنشر) .. كُتب بفكر مستقل وقدرات خاصة لا تُنسب إلا لكاتبها .. وتتضمن المجموعة ثلاثة عشر قصة قصيرة ذوات طاقة إبداعية عالية وسأتخير بعضها لإبداء رأيى بها .. فكل قصة حالة متفردة تناول الكاتب فكرتها بجرأة ووعى معبراً عما يتسم بالعمق فى ذاته بلغة بسيطة تبدو فطرية ولكنها لا تخلو من خبرة الكتابة السردية بتقنياتها الحديثة ومخيلة ذاخرة بألوان الجمال التى لم يحلم بها قارئ من قبل .. فهو يسترجع الماضى ويستشرف المستقبل ويرسم الطبيعة والشخوص كما يريد لها ثم يكسو الخيال ثوب الواقع بأسلوب رشيق منمق فى بعض الأحيان ومثير للدهشة فى الغالب .. وأعتقد أن اختيار عنوان المجموعة ( سينيما قصر النيل ) كان بسبب أنها أول قصة من حيث الترتيب فى الطباعة وليس لأنها أكثر القصص تميزاً بالمجموعة فالموضوع مطروق من قبل ولكن ( فاروق ) تناوله كنموذج لا يكون إلا للمرأة الشرقية شديدة المصرية التى تحافظ على كيان أسرى قائم وتبلع الزلط رغم خيانة زوجها لها ومزج هذا الحدث بأحداث عامة وتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية كموت جمال عبد الناصر ونزوح كثير من العمالة المصرية لدول الخليج وانتشار الفضائيات التى ألبت إحدى قنواتها الذكريات الحلوة والمؤلمة معاً على بطلة القصة .. وتتميز الحالة الابداعية عند ( محمد فاروق ) بتقمص روح الكائنات فى فانتازيا جديدة.. فها هو ينفعل كرجل مصنوع من الإسفنج يعشق عروس من الحلوى عشقاً يقترب من المأساة لرؤيته الحبيبة وهى تنقص شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى ولا يستطيع حمايتها أو حتى الانتقام ممن تسبب فى فنائها .. ويجعلنا نفزع لفزع ( كوكا ) القطة التى تعجز عن إخبار أى مخلوق بموت صاحبتها ولا يعيرها أحد انتباهاً حتى فاحت رائحة الجثة بعد خمسة أيام فيكسر البوليس الشقة وتخرج ( كوكا ) تواجه فى شيخوختها عهداً جديداً من الشقاء و التشرد والضياع .. ولا يفوت الكاتب ههنا وصف نمط من أنماط الحياة المصرية وصفاً تفصيلياُ لسيدة عجوز وحيدة لا يؤنس وحدتها سوى شغل التريكو وشريط فيديو لابنها المهاجر بأمريكا و( كوكا) بأبناءها وأحفادها ثم يُصعد الحدث تدريجياً حتى يصل إلى ذروة الدراما فى نهاية القصة ويترك خيط رئيسى حر ليداعب به خيال القارئ.. وتندهش فى( ميم ونون ) كيف صور الكاتب مشاعر وانفعالات وتساؤلات أحد الحيوانات المنوية وهو فى رحلة اقتحامه للبويضة .. ولا أنكر أننى انبهرت حقاً بسرد ( محمد فاروق ) كامرأة فى أكثر من نموذج لها لا تشبه إحداهما الأخرى .. فأى قهر هذا الذى تشعر به امرأة متفجرة الأنوثة منكسرة الروح تفشل بأى علاقة مع من تحب بمجرد أن يعلم اسمها الحقيقى الذى أصر أباها على أن يسميها به وبمرور الوقت أصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيتها فلا تستطيع تغييره ولا تفقد الأمل أن هناك من سيقبلها باسمها يوماً ما .. تتجلى روح الكاتب فى كل شخصياته وفى إيقاع عمله الأدبى ويهتم بالتفاصيل الدقيقة عند تصوير الأشياء كواقع فيتحرك فى مساحات واسعة – لما هو ممكن – بملكاته ليكتشف عوالم تبدو حقيقية ولا يستطيع الوصول إليها سوى الخيال الراكض بلا قيود فيشكل أنماط وجود جديدة ويضفى عليها من المشاعر والقدرة على الفعل والانفعال فيمنحنا متعة مخيلته الخصيبة ..فبدت مثلاًقصة ( ا م ر أ ة ) كومضه برق مبهرة تنبئ بانهمار الغيث إذ بلغ السرد أعلى مراتبه لدى الكاتب بما تضمن من خيال ممزوجاً بواقع وأسلوب يتسم بالبعد عن الشائع والمستهلك عند تناول العلاقات بين الرجل والمرأة والذى لا يكاد يشبه أياً مما كتب الكتاب المعاصرون فبرع الكاتب فى إيصال المشاعر الفطرية والأفعال التلقائية التى تخترق الروح بمدى صدقها.. فتلك امرأة وُلدت من رحم الصحراء باكتمال تستشعره فى نفسها رغم عزلتها عن كل مظاهر الحياة البشرية وكانت ردة فعلها فطرياً حال ملاقاة رجلين ذوا طباع متناقضة فأحدهما بلغ ذروة السمو والأخر هو ذروة القسوة وقاع الانحطاط وهى فى الحالين تحمل سمات امرأة تستكشف العوالم الجديدة وتتعامل معها بما تستحقه لم أتطرق لباقى القصص والتى هى أيضاً متميزة الإبداع كى أترك المساحة لقراء آخرين وقراءة أخرى ... و أخيراً أستعير من قصة ( ا م ر أ ة ) جملة على لسان بطلتها ( غزال ) : “ الجمال فى عقولنا يحتاج إلى التبصر ولا يحتاج لمرآة أو رائى