شهد الغناء الشعبي تدهورًا كبيرًا بعد أن كان أحد أهم الألوان الغنائية بداية من عبد المطلب ومحمد رشدي ومحمد طه وحورية حسن، أسماء كبيرة لمعت في تقديم هذا الفن، ليفقد هذا الفن بعدها جماله وتأثيره، وأصبح عبارة عن كلمات غير مفهومة تحمل إيحاءات خارجة عن الأدب العام في بعض الأحيان، وبعدما كانت الأغنية الشعبية تصف حال الطبقة الكادحة، أصبحت الأفلام التجارية الحديثة تعتمد الأغنية الشعبية الحالية بشكلها الرديء. الغناء الشعبي على الطريقة الكلاسيكية كان لصوت محمد طه الفنان الشعبي الذي غنى وألَّف 10 آلاف موال، أغلبها لم يتم التحضير لها، وتغنى بها ارتجالًا دون سابق إعداد، فكان يقف وسط محبيه ومريديه على مسارح الفن الشعبي بالقاهرة وينشد المواويل، وكان يغني على مقاهي الحسين والسيدة زينب أثناء الاحتفال بالمولد النبوي وإحياء المناسبات الدينية، وكانت له شركته الخاصة لطباعة الاسطوانات وتسمى «ابن البلد». وحقق محمد طه نجاحًا كبيرًا في الغناء الشعبي الذي أكسبه شعبية كبيرة، حيث يقول جليل البنداري في خبر نشر بأخبار اليوم في 3 سبتمبر 1961: «استيقظت من النوم على مظاهرة في شوارع بيروت، وفتحت نافذة غرفتي بالفندق لأرى المطرب الشعبي المشهور محمد طه وهو يمشي في الشارع بجلبابه البلدي وطربوشه التقليدي، وكان يوزع مواويله على المعجبين والمعجبات، كما توزع ملكات جمال العرب ابتساماتهم على الجمهور وعلى لجنة التحكيم، وفي كل خطوة كان المعجبون والمعجبات يلتفون من حوله ليوقع بإمضائه على أوتوجرافاتهم كروبرت تايلور وأحمد مظهر ومارلون براندو تمامًا». قمة الأغنية الشعبية هناك عدد كبير من الفنانين الشعبيين الذين تربعوا على عرش الغناء الشعبي في هذه الحقبة الزمنية بجانب محمد طه، مثل الفنانة جمالات شيحة، التي بدأت الغناء وهي في سن 12 عامًا، ومازالت تحتفظ بشهرتها حتى الآن، وفاطمة سرحان التي أجادت أشكال الغناء الشعبي كافة، وروح الفؤاد صاحبة أغنية «سوق بينا يا اسطى على الكورنيش» وخضرة محمد خضر، أشهر فنانات الغناء الشعبي. الفنان الكبير محمد عبد المطلب الذي تتلمذ على يده أبرز نجوم الغناء الشعبي، وصل عدد أغانيه لأكثر من ألف أغنية، فكان يغني على مسرح بديعة، فيما عينه محمد عبد الوهاب «كورسي» في فرقته، ولحن له محمود الشريف أغنية «بتسأليني بحبك ليه» والتي حققت نجاحًا كبيرًا فسجلها على اسطوانة. ومن أغانيه «البحر زاد، يا ليلة بيضا، تسلم إيدين اللي اشترى، حبيتك وبحبك، قلت لابوكي، يا حاسدين الناس، ساكن في حي السيدة، يا أهل المحبة، ودع هواك، اسأل مرة عليا، الناس المغرمين، شفت حبيبي، مابيسألش عليه أبدًا"، كما غنى من ألحان الموسيقار فريد الأطرش وكلمات إسماعيل الحبروك أغنية الأفراح «يا ليلة فرحنا طولي»، وحصل على وسام الجمهورية من الرئيس عبد الناصر عام 1964. والفنان محمد رشدي الذي قدم عددًا من الأغاني الشعبية التي مازالت تتردد حتى الآن، ومنها «قولوا لمأذون البلد»، التي تتردد في المناسبات والأفراح، وكان يكتب له عبد الرحمن الأبنودي ولحن له بليغ حمدي، فقدموا عددًا من الأغاني التي تعد بصمة في تاريخ الغناء الشعبي. وكثيرون غيرهم ممن أبدعوا وأطربون من خلال الغناء الشعبي على مر السنوات الماضية، وكان للتليفزيون دور كبير في شهرتهم ولفت الانتباه إلى هذه المواهب الفنية والتي أفرد لها مساحات داخل الافلام السينمائية، فكان القائمون على السينما قديمًا يهتمون بالاستعراضات الفنية. عدوية.. الأب الروحي كانت فترة السبعينيات والثمانينيات بداية لظهور لون جديد من الغناء أقرب إلى الغناء الشعبي، اختلف في طريقة الأداء والكلمات، وأيضاً شهد اختلافًا كبيرًا في الموسيقى والرتم السريع، لكن كانت هذه الفترة تشهد ازدهارًا كبيرًا لأشرطة الكاسيت، وكان النجاح والمبيعات الأعلى من نصيب الغناء الشعبي، رغم رداءة الأشرطة وعدم نقاء الصوت؛ لأن التسجيل كان يتم في استديوهات بسيطة ليس بها إمكانية عزل الصوت، ولكن نجحت نجاحًا ساحقًا. وكان هذا الاختلاف بدخول جيل جديد من المطربين على الغناء الشعبي اختلف النقاد حوله وانتقده الكثيرون باعتباره تقليلًا من قيمة الأغنية الشعبية، وذلك مع ظهور الفنان أحمد عدوية الذي لقب مؤخرًا ب«الأب الروحي» لمن جاءوا بعده، غنى في الحفلات والأفراح الشعبية، واشتهر ب«السح الدح امبو، وزحمة يا دنيا زحمة، سيب وأنا أسيب»، ونال صوته إشادة عمالقة الموسيقى العربية محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. وكان المنتجون يتهافتون عليه بسبب شهرته الكبيرة في الشارع المصري، لكن على أثر الحادث الكبير الذي تعرض له، ابتعد عن الفن لأكثر من 10 أعوام، وظهر مؤخر وشارك في عدد من الأغاني مع الجيل الحالي منها أغنبية «الناس الرايقة» مع رامي عياش، وخرج عليه الموسيقار حلمي بكر يطالبه من عدم الغناء مجددًا؛ لكن لم تعد له قدرة على ذلك وصوته أصبح ضعيفًا. فيما كان غياب عدوية سببًا في ظهور المطرب حسن الأسمر، الذي كان يغلب على أغانيه الطابع الحزين إلى حد ما، وكان يسمى بمطرب العمال؛ لأنه كان أشبه بالطبقة العمالية في مصر في ذلك الوقت، وكانت السينما والمنتجون يسارعون إليه وينسبون إليه الأعمال المسرحية والسينمائية، ومن أشهر أغانيه «كتاب حياتي يا عين». وبدات بعد ذلك مرحلة ثانية بظهور المطرب حكيم، الذي حقق نجاحًا كبيرًا، وكان قبل ذلك يغني في الملاهي الليلية والأفراح، ومن أغانية «النار النار، السلامو عليكو، ولا واحد ولا ميه»، ووجد المنتجون أن هذا اللون السريع الذي اختلف تمامًا عن مفهوم الغناء الشعبي قديمًا مادة للربح، خاصة مع تدهور الثقافة في مصر والذوق الفني، وأصبح أي شخص غير مؤهل يغني. وكانت بداية ظهور شعبان عبد الرحيم عندما سمعه أحد أصحاب محلات بيع الكاست، أثناء تأدية عمله «مكوجي» بأحد الأحياء الشعبية، فعرض عليه أن ينتج له شريطًا مقابل مائة جنيه، ومن أشهر أغانيه «أنا بكره إسرائيل» وأحدثت هذه الأغنية ردود فعل كبيرة محليًّا وعربيًّا، وقد اتهمته شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية بأنه يحرض ضد إسرائيل والتطبيع. وكان منافس شعبان عبد الرحيم، المطرب الشعبي محمود سعد، وغيره من الفنانين الذين اعتمدوا أسلوبًا جديدًا في الغناء، ولاقى ردود فعل مختلفة ما بين معارض؛ لأنه من الجيل القديم الذي تربي على أغاني عبد المطلب، وما بين مؤيد خاصة من الأجيال الصغيرة التي لم تتشبع بالفن الأصيل؛ بسبب الإهمال من جانب القائمين على الثقافة والفن، الذين لم يهتموا بإخراج جيل مثقف يعي أهمية الفن وتأثيره. وظهرت بعد ذلك مجموعة أخرى من المطربين؛ مثل عبد الباسط حمودة وأحمد شيبة وسعد الصغير والحسيني والليثي وغيرهم من الفنانين المتواجدين على الساحة الفنية الآن، الذين سيطروا بشكل كبير على الأفلام السينمائية التجارية، التي تحاول تحقيق إيرادات عالية من خلال الأغنية الشعبية التي تعتمد على الإيحاءات الجنسية ولا تقدم رسالة واضحة. المهرجانات الشعبية وواصل الغناء الشعبي انهياره حتى وصل إلى موسيقى المهرجانات، والتي تعد من أشهر الأنواع الموسيقية انتشارًا في الفترة الحالية بالحفلات الكبرى والأفراح الشعبية، ويستمع إليها أغلب طبقات الشعب، فتتردد بأفخم السيارات والميكروباصات والتكاتك بلا فرق، كما تسجل تلك المهرجانات أعلى نسب تحميل على الإنترنت، ومن أبرز مطربيها أوكا وأورتيجا وفيجو وعمرو حاحا. تترات المسلسلات الشعبية ويسيطر مطربو الغناء الشعبي الآن على غناء تترات المسلسلات وأغاني الأفلام السينمائية، فالمنتجون يتجهون إلى الأكثر شهرة بين الجمهور، بصرف النظر عن اللون الغنائي، حيث نجد أن الأغاني الشعبية حققت نجاحًا كبيرًا في السباق الرمضاني الماضي، فالمطربون الشعبيون الأكثر رواجًا على الساحة الآن والأعلى أجرًا.