في الثالث والعشرين من رمضان الجاري، نُقلت صلاةُ الفجر على الهواء مباشرة من الجامع الأزهر الشريف، والمسلمون لم يُطلقوا وصف الشريف - على ما يبدو - إلا على ثلاثة أسماء: المصحف والحرم والأزهر، وذلك - في رأيي - لما لَمسوه من اجتماع شرف المبنى والمعنى مع شرف الغاية والوسيلة في الثلاثة، فالمصحفُ أَدَّبهم، والحرمُ جَمَّعهم، والأزهرُ علَّمهم. وقبل أن يشرعَ الإمام في الصلاة، أعلن أنه سيقرأ برواية "رُوَيْس عن يعقوبَ الحضرميّ"، ويعقوبُ هذا: هو تاسع القراء العشرة المعتمدين بطريقة علمية، وقد كان أعلم أهل زمانه بالرواية والقراءات واللغة والفقه، حتى انتهت إليه رئاسة الإقراء بعد أبي عمرو، ومن أحذق أصحابه "رويس" و "روح". [الشيخ محمد رشاد زغلول] كان الإمامُ أحدَ شباب الأزهر الأكابر بعلمهم، حيث الخشوع مقترنًا بالإتقان على الرغم من بعد منهج القراءة عن رواية "حفص عن عاصم الكوفي" التي اعتدنا عليها. إلا أن القراءة كانت متأصلة فيه، تخرج من بين شفتيه سلسةً ناضجةً تُدرِكُ منها أن العلم عند هؤلاء تليد. .. الفذلكة.. يقول اللغويون: إن الفذلكة مصدر الفعل (فَذْلَكَ) أي: أَجْمَلَ مَا فَصَّلَ. ولعل ذلك التعبير نُحت من فاء السببية واسم الإشارة: (ذلك)، فيقول أحدهم عند الانتهاء من تفصيل موضوع ومحاولة تلخيصه: فَذَلِكَ يعني كذا.. وقد كثرت الفذلكة عند البعض حتى صارت تفذلكا، فنجد من يحاول تحليل كل شيء، بمنطق وبلا منطق، بعلم وبغير علم. ونجد من يحاول تعديل الكون على حسب هواه ويرى أن ما يحويه رأسه الألمعي أهم وأرقى من علم الأوائل والمتأخرين معا. ونرى من ادخر من العلم نزرا يسيرًا، ويناطح العلماء بذلك النزر بل ويملأ منه فمه ويتشدق به فارضًا إياه على الجميع.. وللعامة ترمومتر حساس لهذه الأمراض النفسية، فيشمون رائحة المتفذلك من بعيد، فإن فتح حديثًا أغلقوه، وإن حضر في مجلس تركوه. ومَن منا لا يتحاشى فلانًا أو علانًا لكثرة صخبه بما لا يفيد.إن أيًّا من هؤلاء كفيل برفع ضغط المجتمع حتى الانفجار، وحري إذا مشى في طريق أن نتركه له فارغًا. رواية أم دراية أصابت الفذلكة كلَّ شيء، فصرنا نخترع العجلة من جديد.وليس أدل على عاقبة التفذلك من حال التعليم في السنوات الأخيرة، انحدارٌ تلو انحدار، وكل محاولة لإصلاحه لا تعدو كونها تفذلكا جديدًا، فقد تحطمت القيم التعليمية ولن يجدي في إصلاحها استخدام "تابلت" أو تخفيض منهج.. ولكن حين يتضح الهدف وتعود القيم من السهل أن تتطور الوسيلة. وأضرب مثلا للفذلكة في مناهج التعليم بتجويد القرآن في المجتمعات الإسلامية، ، ، تقرأ اللافتات وتأتيك المنشورات في كل مسجد عن مكتب هنا ومكتب هناك لتعليم التجويد علي يد الشيخ فلان صاحب الإجازات و.. هكذا من أول وهلة، ترى أطفالا في عمر الزهور يذهبون ويعودون مثقلين بحفظ أحكام التجويد من (إظهار وإخفاء وإدغام وهمس و.. ) وشواهد ذلك من أشعار ومتون، ولمَّا يحفظوا من القرآن شيئا.. وتجد الآباء فرحين والأبناء تائهين. وليس من هاهنا تؤكل الكتف، وإنما تؤكل من الأسفل إلى الأعلى، بعناية وتروٍّ، فلابد أن تستقر الرواية عند المتعلم استقرارًا كاملًا قبل البدء في أحكام الدراية، وهذه الطريقة هي التي وصل بها الكبار إلى مبتغاهم. فقراؤنا الكبار الذين أذهلوا العالم بجودتهم كان بعضهم لا يعرف من الأحكام شيئا ومع ذلك كان حجة بقراءته، إذ كانت الرواية سليمة، ثم ما أسهل أن تعلَّموا الأحكامَ بعد ذلك بلا مشقة أو عنت. ولعل ما فعله إمام الجامع الأزهر لهو ردٌّ على قُرّاء المآتم المتفذلكين، الخارجين من قراءة إلى قراءة بلا رواية أو دراية، وإنما رغبة في التميز وادعاء للعلم.. وفرق كبير بين إناء ممتلئ يفيض منه الماء بسلاسة وإبداع، وآخر به قطرة ستتبخر مع أول شعاع.