بدأتُ فى جمع هذه الشهادات، مع دخول المصريين فى حظر التجول الأول بسبب تداعيات فيروس كورونا الذى تم الإعلان عنه فى الأربعاء 25 مارس 2020، وكان تجربة جديدة على المصريين، الذين استعانوا -مثلهم مثل جميع سكان المعمورة- بوسائل التواصل الاجتماعى كوسيلة من وسائل التواصل أثناء الحظر، وقد كانت أيامًا مختلفة، بحكم أنها كانت تطوى داخلها تجربة مختلفة، ومن الثابت أننى سمعت عن قصة نعمة والكلب جيربو من بوست على الفيس بوك، يطلب مساعدات لبائعة الخضار التى تعمل فى منطقة وسط البلد، ومع متابعتى للبوستات المتتالية بدأت أتعرف على بعض ملامح القصة، التى دفعتنى للبحث عن البائعة، حتى تعرفت إليها فى نهايات شهر نوفمبر 2020. أما قصة جانيت وهيلانا فقد حدثت معى شخصيًّا، لكننى غيَّرت الأسماء؛ لأسباب تخص السيدتين. إلى ذلك فإننى تعرفت على الخيوط الأولى لقصة وفاة منير السايح، من صديق يعمل فى أحد أحياء منطقة إمبابة. هذا وقد من الممكن تصوير "نعمة" حتى عن بعد لكننا احترمنا رغبتها فى عدم التصوير،وقد اعتمدنا على صورة للكلب جيربو،التقطها الفنان التشكيلى الكبير فتحى عفيفى،أثناء تسجيله لمشاهداته عن حظر التجول فى شوارع وسط القاهرة،مع ملاحظة أن الكلب جيربو قد اختفى من المنطقة فى شهر يوليو 2020،وهو ما فسره كثيرون بأن الكلب قد نفق،فيما تصر نعمة على أنه ذهب ليطمئن على أحد الأحباب،وسيعود لها يوما ما. أحمد خالد [email protected] 1-حبيب من الأحباب فى كل ذلك الزحام، تحتفظ نعمة بابتسامتها، وابتسامة نعمة أكبر من عمرها، وعمر نعمة الذى زاد على الخمسة والعشرين عامًا بأيام، أكبر من أيامها، وأيام نعمة التى تكسب رزقها من بيع الخضراوات، فيها من الحزن ما يختبئ خلف ابتسامتها. زحام شديد تعيش فيه نعمة التى تعيش مع أمها فى منطقة «الأباجية» الشعبية بالقاهرة، المكتظة بسكان البيوت القديمة المتهالكة والمتساندة على بعضها البعض، وزحام شديد آخر تعيش فيه، فى شارع الفلكى الذى تفرش فيه خضراواتها، فشارع الفلكى يشكل مع شوارع نوبار وسعد زغلول وصفية زغلول وإسماعيل أباظة وقصر العينى، أكثر الشوارع ازدحامًا فى وسط القاهرة، ففيها من الوزارات والمؤسسات والهيئات الرسمية الكثير، ومنها مثلًا وزارات الإسكان والتعليم والمالية ومجلس الشعب ومجلس الوزراء، ما يعنى كثرة الموظفين، ويفسر كثرة المترددين على هذه الشوارع، التى لا يمكن حتى السير فيها بسهولة ما بين الخامسة صباحًا والخامسة مساء. كما أن تلك الشوارع تضم أبنية لها قيمتها وشهرتها التاريخية، ويكفى أن بها بيت الأمة بيت الزعيم التاريخى سعد زغلول، وعلى مقربة منه أيضًا ضريح سعد زغلول المهيب، ذو الأسوار الحديدية التى من خلال قبضانها يمكن للكلاب والقطط أن تنفذ دخولًا وخروجًا، حيث تعيش فى الحديقة. تأتى نعمة من «الأباجية»، إلى شارع الفلكى، يوميًّا فى السادسة صباحًا، وقبل أن تفرش خضراواتها أمام ضريح سعد زغلول، تضع بعض الطعام فى حديقة الضريح لعائلة قديمة متناسلة من الكلاب، أشهرها الكلب جيربو. بعض من شهرة جيربو يعود لعلاقته وحكاياته مع نعمة، فذات ظهيرة حارقة، جاء نائب رئيس الحى ليشرف على طرد الباعة الجائلين من الشوارع المحيطة، فلما اقترب من «فرشة نعمة» انطلق جيربو من حديقة الضريح متخطيًّا السور، وعضَّ النائب فى مؤخرته. يومها انفعل النائب وشتم نعمة، فردَّت عليه: «وأنا مالى .. هوَّ أنا قلت له يعضك فى ...»، فردَّ عليها صارخًا: «يا انا يا انتِ والكلب».. فردت عليه نعمة أيضًا: «.. انت والكلب أحرار مع بعض». بعد الواقعة اختفى جيربو لعدة أشهر، وظننا أنه قُتل بتهمة السعار، أو طرده الحى من المنطقة، لكننا عرفنا بعد عودته أن نعمة أخذته إلى بيتها فى الأباجية؛ خوفًا عليه من عقاب الحى. منذ أسابع اختفت نعمة، وعرفنا من الست «حسنية» التى تبيع بجوارها البط والبيض والجبن، أنها محجوزة فى مستشفى العزل بمنطقة حلوان لإصابتها بكورونا، وبعدها بيومين اختفى جيربو. دخلت نعمة مستشفى العزل فى عيد الأم، فى الحادي والعشرين من مارس 2020، وذات صباح خرج جيربو من حديقة الضريح، مشى فى شارع الفلكى حتى وصل إلى ميدان باب اللوق، وربما تذكر أنه عندما كان صغيرًا كان يأتى مع أمه ليقتات من فضلات سوق باب اللوق، يقتات من الفضلات التى تتبقى من الصناديق بعد تفريغها من اللحوم المجمدة المستوردة التى يقتات عليها أغلب الشعب المصرى، سليل أول حضارة زراعية. مرَّ على الغرفة التجارية ومن ميدان عابدين مشى مع أسوار القصر الملكى الذى كان مقرًّا لحكم ملوك أسرة محمد على، فى حتى وصل إلى ميدان السيدة زينب، وجد رايات مسجدها الخضراء حزينة وشم رائحة صوفى تبتعد، ونام ليلته خلف مقام سيدى زين العابدين. فى لياليها داخل مستشفى العزل، وبطيبتها الفطرية وبحسِّ بائعة الشارع، ارتبطت نعمة بعديد العلاقات مع الأطقم الطبية والممرضات، وبالطبع مع المريضات مثلها، وكانت تحكى لهن قصصها فى الشارع، ومن ضمن ما حكت، حكت لهم قصة جيربو حينما عضَّ النائب فى مؤخرته. كلبة أيقظت جيربو النائم تحت المقام، وأخذتِ الغريب لخرابة بين مبنيين قديمين، أحدهما يعود لأيام الخليفة المستنصر بالله، الذى تولى حكم مصر فى 15 من شعبان 427ه -13 من يونيو 1036م، وفى عهده وقعتِ الشدة الكبرى، حيث حدثتِ المجاعة، فأكل المصريون القطط والكلاب ثم أكلوا بعضهم البعض ثم أكلوا الموتى قبل أن يأكلوا الموتى مرة أخرى عام 2020 ميلادية، بقسوة القلوب فى قرية «شبرا البهو»، القرية التى رفضت دفن طبيبة استُشهدت وهى تعالج الناس من كورونا، لكنهم رفضوا دفنها خوفًا من إصابتهم بكورونا. أفطر جيربو معها من بقايا فاصوليا خضراء، رمتها هند البيومى التى تعمل فى وزارة الإسكان الكائنة بشارع إسماعيل أباظة المتقاطع مع شارع الفلكى، هند حين نظرت من شرفتها وجدت كلبًا يأكل من الفاصوليا، ولما جاءت تشترى بعض المستلزمات من الجمعية الاستهلاكية فى شارع الفلكى قالت لبائع العصير المجاور للجمعية: «رأيت كلبًا يشبه جيربو عندنا»، والحاج عادل بائع العصير قال ذلك لأم محمد صاحبة الفرن وهى التى قالت للمعلم صليب الذى يمد نعمة بالخضراوات، إن موظفة رأت جيربو عند المقام، وأم محمد هى التى سألته: «ما أخبار نعمة؟». فى لياليها داخل مستشفى العزل، وبعد جلسات السمر التى ابتدعتها لتسلية المريضات، كانت نعمة تبكى خائفة، لا من الموت ولكن من مصير أمها إذا ماتت ولم تجد مَن يعولها. وفى لياليها حسبت بعض خسائرها، ووجدت أنها تخسر يوميًّا ما يقرب من خمسة عشر جنيهًا، هو مكسبها تقريبًا من عملها فى الشارع تبيع الخضار أمام الضريح. من المقام اتجه جيربو مع صديقته إلى منطقة المدبح، وهناك قضى يومين متألمًا لما هاجمته كلاب المدبح التى عرفت أنه غريب وأصابته فى رقبته بخدوش مؤلمة. ومن المدبح عاد جيربو وحيدًا إلى المقام، ثم مشى خلال شوارع جانبية إلى مسجد ابن طولون، الذى يقع خلف مسجد السيدة زينب، وقادته رائحة قديمة للسير بين عطفات وحارات وأزقة، كان عرفها يوم اصطحبته نعمة لبيتها، حتى وصل إلى بيت قديم متهالك فى حارة البنادقة بمنطقة الأباجية الشعبية، ثم صعد السلالم المتهالكة أيضًا مع اشتداد الرائحة القديمة، ثم أقعى أمام باب حجرة متهالكة أيضًا، فى عصر الخميس الحادي والثلاثين من مارس. أم نعمة أحست بحركة غريبة أمام باب الحجرة، ولما لم تكن قادرة على الحركة، لم تستطعِ استبانة ما يحدث خارجًا، ولما نادت على مَن بالخارج لم يُجِبْها أحد، قالت فى نفسها: «سأنتظر حتى تأتى حسنية»، وحسنية بائعة الجبن التى ترعى أم نعمة فى غياب نعمة، لما صعدت بعد صلاة العشاء إلى السطح، تسمرت مكانها لما وجدت جيربو أمامها، وأم نعمة لما أحست بقدوم حسنية فى موعدها نادت: «مين عندك يا حسنية؟»، وحسنية وهى تربت على رأس جيربو ردت على أم نعمة وقالت: «حبيب من الأحباب». فى لياليها داخل مستشفى العزل، كانت علاقة نعمة تتوطد بفريدة بُقطر مخرجة الأفلام التسجيلية، التى حكت لها عن انتشار كورونا فى العالم، وفى بلد اسمها إيطاليا بالذات. كانت فريدة تحكى لنعمة بطريقة تناسب بساطة ثقافتها، وكانت نعمة تتصنع الدهشة؛ لتقنع فريدة أن طريقتها التى تناسب بساطتها مقنعة جدًّا، لكن نعمة اندهشت فعلًا لما حكت لها فريدة أنها كانت ستسافر لمهرجان اسمه البندقية لتشارك فى فعالياته، لكن المهرجان أُلغى بسبب كورونا، ونعمة اندهشت فعلًا لأن هناك مدينة اسمها البندقية تعيش فوق الماء، ونعمة رددت اسم البندقية بصوت عالٍ، ثم قالت لفريدة: اسم شارعنا البنادقة، وفريدة لما قامت بالبحث على جوجول،عرفت أن الطلاينة قَدِموا لمصر فى عصر السلطان الغورى، وكانت لهم جالية كبيرة فى القاهرة بسبب التبادل التجارى بين القاهرة والبندقية، حتى صار لهم شارع اسمه «البنادقة». لما دخلت حسنية مع جيربو إلى حجرة أم نعمة، ارتمى جيربو على صدر أم نعمة وتشممها ثم نزل يبحث عن حبيبة أخرى، فلما لم يجدها أقعى على بعض ثياب نعمة، فسكتتِ السيدتان. فى صباح الجمعة الأول من أبريل خرج جيربو ممتلئًا برائحة خرجت به من شارع البنادقة، ثم إلى منطقة مسجد بن طولون، ثم رجوعًا إلى مقام السيدة، ثم من السيدة إلى الشوارع التى تؤدى إلى كورنيش النيل، فلما وصل إلى الكورنيش، تشمم النيل واتجه يسارًا مع السيارات المتجهة إلى منطقة حلوان، البعيدة عن وسط القاهرة بحوالى 20كم، وأخذ يمشى حتى وصل إلى مستشفى العزل مساء الثانى من أبريل، وأقعى أمام الباب، والرائحة القديمة تتجدد فى أنفه، برائحة جديدة قادمة من الدور الثانى. فى ليلة الإثنين أخبر الأطباء نعمة وفريدة بُقطر أنهما تعافيتا من كورونا، وأن عليهما الخروج فى الصباح التالى، نعمة زغردت وحاولت تقبيل الممرضات والطبيبات، لكن فريدة منعتها مذكرةً إياها بالإجراءات الاحترازية، وفريدة التى منعت نعمة من تقبيل المريضات والممرضات والطبيبات، اتصلت بأسرتها كى يأتوا صباحًا ليأخذوها بالسيارة إلى المنزل، ثم ختمت المكالمة قائلة: لكننا سنمر على شارع البنادقة أولًا. فى الثامنة من صباح الثلاثاء الثالث من أبريل، خرجت فريدة ونعمة من مستشفى العزل، كانت سيارة أهل فريدة فى الانتظار، فريدة قالت لنعمة: سنقوم بتوصيلك أولًا، وفريدة تفتح باب السيارة لنعمة، قفز كلب إلى حضن نعمة (كلب كان ينتظر منذ يومين)، ونعمة التى صارت دموعًا أغرقت الكلب جيربو بالقبلات، وفريدة التى اندهشت، ثم اطمأنت لما رأتِ القبلات صرخت مبتسمة فى نعمة: مين ده؟ ونعمة ردت فى دموعها: حبيب من الأحباب. أسواق جيربو 2-محاولة إرسال الابتسامة من مطار القاهرة لمطار فرانكفورت مرورًا بمطار عمان، اعتقدت أن مَن بجوارى، وكانا فتاة مصرية تحمل الجنسية الألمانية، وشابًا سوريًّا يعيش فى ألمانيا، سيساعدانى فى إرشادى لكيفية التحرك من مطار فرانكفورت إلى مدينة كاسيل، كاسيل مدينة سندريلا وذات الرداء الأحمر، التى تبعد ساعتين عن فرانكفورت، وكنت أقصدها لزيارة أعزاء هناك. كان أن هبطنا مطار فرانكفورت فى الخامس من نوفمبر 2019، وأنا أكاد ألتصق بهما؛ حتى يرشدانى لما يجب أن أفعل بعد الخروج من المطار، ولكن كانتِ المسافة تبعد وتتباعد، حتى وصلنا لمنطقة استلام الحقائب فلم أجدهما، إذ مضى كل منهما إلى حال سبيله، وكان عليَّ أن أعتمد على نفسى وأنا أجرُّ حقيبتى، حتى وصلت لباب الخروج من المطار أفكر فى كيفية وصولى لكاسيل، فوجدت نفسى أمام أربعة ضباط شرطة، منهم الشرطيتان جانيت وهيلانا، فتاتان لا تدلان على فتنة واحدة، فالفتنة تتعدد . نظرت للجميع وأنا أُعِد كاميرا المحمول للتصوير وقلت: أنا صحفى مصرى، أحب أن ألتقط صورًا لابتسامات الناس حول العالم، هل يمكننى أن ألتقط صورًا للابتسامات الألمانية؟ وقد حدث أننى بعد ذلك أرسلت عبر الإيميل صورًا للابتسامات الأربع. كان ذلك فى نوفمبر 2019، ومع ذروة انتشار كورونا فى ألمانيا أبريل 2020، أرسلت لى جانيت رسالة عبر الواتس: «أرجوك.. أعد إرسال ابتسامتي». المحرر فى فرانكفورت 3-خبير حيوانات سابق كان يمشى فى ساعات الحظر بدون كمامة، حين أوقفه ضابط فى شارع البصراوى بمنطقة إمبابة الشعبية وسأله: ما اسمك؟ فردَّ بعلياء: المظفر نجم الدين بن الحاج إسماعيل، واللقب دغفل. الضابط الذى كان قد عمل لفترة فى حراسة صحفى مشهور، فكر قليلًا ثم سأل متعمدًا ومداريًا ابتسامته: لقبك مغفل؟!! فردَّ متعاليًّا؟: دغفل.. دغفل.. ودغفل تعنى صغير الفيل. الضابط وجد استراحةً ما من عذابه الجديد فى مطاردة مخالفي الحظر، وسأل دغفل: وما عملك أيها المظفر؟ فردَّ دغفل بعلياء حزينة: خبير حيوانات سابق. لم يكن اسمه المظفر نجم الدين، فقد كان منير السايح يختار لنفسه فى كل يوم اسمًا، حتى أن صديقَي عمره، عبده المر وعادل حامد المشهور ب«عادل فريرة»، كانا يسألانه فى كل ليلةِ لقاء عند عربة الكبدة الخاصة بالمر عن اسمه الجديد. ولم يكن فى اختياراته اليومية لاسمه، يلجأ للأسماء المشهورة أو تلك التى توحى بالاختلاف إلا فيما يسميه «المواقف الرسمية»، مثل موقفه مع الضابط، أما مع الصديقين فكان يختار لنفسه أسماء الممثلات اللواتى رأى أفلامهن فى سينما مرمر، وهى السينما التى تحولت بعد ذلك لمسرح نجم ثم لمول تجارى، فيقول مثلًا : حسنى أبوسعاد، قاصدًا سعاد حسنى، مونرو أبومارلين قاصدًا مارلين مونرو، أو لطفى أبونادية قاصدًا نادية لطفى، وحتى صدقى أبوزينات قاصدًا نجمته المضحكة زينات صدقى. وما من شجرة مر عليها، فى طريقه من بيته، أو بمعنى أدق من حجرته فى شارع الرضوان فى إمبابة مرورًا بمنطقة المحكمة ثم صعودًا إلى كورنيش العجوزة، ثم إلى ميدان الدقى، ثم إلى عمله حارسًا للأفيال فى حديقة الحيوان بالجيزة، إلا وكان أطلق عليها اسمًا، فالأشجار تستحق الأسماء، ومن الطبيعى أنه سمى كل أشجار حديقة الحيوان، التى تحمل على جذوعها يافطات بأسماء أنواعها، فخلف هذه اليافطات كان دغفل يكتب أسماء أخرى، وحتى الآن لو نظر أحدهم خلف يافطة الشجرة المكتوب عليها «شجرة السباثوديا»، لوجد المكتوب خلف اليافطة بخط دغفل «شجرة الحاجة نعيمة». وكما سمى شجرة باسمها، سمى دغفل أحدث فيلة جاءت للحديقة باسم الحاجة نعيمة، والحاجة نعيمة لم تحج، لكنها أم عبده المر صديق دغفل، ودغفل لم يرَ الحاجة نعيمة أم عبده، وعبده نفسه لم يرَ أمه، إذ ماتت فى نفاسها، ومما رواه صديقهما الثالث عادل فريرة للقط ناش وللقطة عبلة، أن دغفل نفسه لم يرَ أباه ولم يرَ أمه، فهو لقيط وجدوه تحت النخلة، والقط ناش كان قطًّا بلديًّا مشمشى اللون، والقطة عبلة كانت دائمة الامتعاض. .دغفل تقبَّل بتسامح أن يسمى عادل فريرة القط ناش ناش، فهو قطه وهو الذى أنقذه قبل أن يدوس عليه القطار الذى يمر بشارع البصراوى، كما تقبل بتسامح أن يسمى القطة عبلة عبلة فهى قطته، وهو الذى أتى بها بعد أن تخلت عنها العائلة التى تسكن فى الزمالك، حيث يعمل عادل فى ميدان صغير لا اسم له بائعًا للورد. دغفل أسرَّ ذات مرة لعبده المر، أنه كان يتمنى لو اختار اسمين للقط ناش وللقطة عبلة، فالقطة عبلة تستحق اسم ناشو، والقط ناش يستحق اسم عنتر، وعبده المر لم يرد على دغفل، بل شعر بنوع من الشماتة فيه؛ لأن دغفل كان كرر قبلها جملته الأثيرة: «أعتقد أن الأفيال بطبعها سامقة الحزن»، فطيلة ثلاثين عامًا من صداقتهما، كان عبده يتعجب من كلمة «سامقة»، لكن كبرياءه كان يمنعه من السؤال عن معناها، والقطة عبلة كانت عيانها خضراوين، والقط ناشو كان -كما العادة- يختفى فى الأسبوع الأخير من ديسمبر، ويعود ليلة عيد الميلاد، فيعطيه عبده المر ساندويتش كبدة. دغفل كخبير حيوانات قال لعبده وعادل: «إن القط ناش يختفى فى ذلك الأسبوع؛ لأنه يذهب للنخلة التى مازالت قابعة ما بين امتداد شارع البصراوى وبداية شارع بنى محمد، ومن المؤكد أن أمه ولدته تحتها، لذلك يحنُّ لمكان ولادته»، وزاد دغفل بأن قال: «أعتقد أن كل القطط جذلانة»، وعبده المر الذى لم يستطع أن يتجاوز أزمته مع كلمة «سامقة»، بدأ يفكر فى هم جديد اسمه «جذلانة». يعطى عبده المر القط ناش ساندويتش الكبدة؛ لأن عبده هو صاحب أشهر عربة كبدة فى البصراوى، أشهر تعنى أشهر عند الذين لا يستطيعون الذهاب لذلك المطعم فى شارع الوحدة، فالجميع يعلم أن عبده وصاحب المطعم الشهير بدأا مهنة الإطعام معًا، والجميع يعلم أن عبده ظل فى مكانه، وعادل فريرة قال لزوجته مرة: «آه لو كان عبده غيَّر مكانه»، وزوجته أم أميرة تفادت النظر له، وقالت: «أميرة تريد فلوس الجامعة»، وكان عادل يمشى على الخشب، وكان عادل يمشى على الماء، ودائمًا ما كان دغفل ينتظره عند الضفة الأخرى، حيث كان يعطى الأشجار الأسماء، من تلك الأشجار شجرة كافور على الكورنيش أمام مستشفى العجوزة سماها أميرة. حين أعطى دغفل للشجرة اسم أميرة، كان يلمح عادل فريرة على مركبه الخشبى قادمًا من الضفة الأخرى فى الزمالك، وكان يحلو له أن يجدف واقفًا، ويسير فى تجديفه بين مقدمة المركب ومؤخرته، ويقول إنه يمشى على الخشب، والخشب يمشى على الماء، إذن فهو يمشى على الماء، وبعد أن يربط مقدمة المركب بوتد فى الضفة، يصعد حاملًا الوردة اليومية التى يأتى بها لابنته أميرة، فيجد دغفل فى انتظاره؛ ليمشيا معًا عائدَين للبصراوى. فى ذلك اليوم، من بدايات التسعينيات من القرن الفائت، أفضى دغفل لعادل بهمِّه الجديد، قال إن «مسئولًا جديدًا أتوا به للحديقة، المسئول قريب للوزير، ومن أجله ابتدع له وظيفة جديدة تجعله مشرفًا على قطاعات الحدائق فى الوزارة ومنها حديقة الحيوان، وفى أول اجتماع له مع العاملين بالحديقة، قرر أن يسمى هو بنفسه أى مولود جديد فى الحديقة، وبذلك سيُحرم دغفل من تسمية مواليد الفيلة. دغفل قال لعادل: «الفيَلة لا تحمل كالإنسانة تسعة أشهر، فربما يستمر حملها 22 شهرًا، ومن أجل ذلك ميَّز الخالق الأفيال على الإنسان، والفيلة نعيمة على وشك الولادة، ربما تأتى بفيل فى الربيع القادم»، ثم نظر له وقال: «كنت سأسميه فريرة». عادل ضحك، ثم كاد يصرخ وهو يستوقف دغفل: «أنا نسيت وردة أميرة». كل الحلول التى طرحها دغفل لم تصلح، اقترح مثلًا أن يشتريا وردة من أى محل ورد على الكورنيش، أو أن يقطفا وردة من بقايا الحديقة التى أقامتها البلدية حين زار الأمير تشارلز إمبابة، وفى النهاية عادا إلى الكورنيش، وعند الشجرة نزلا للنيل ليستقل عادل المركب مجدفًا به إلى الزمالك، لكنهما لم يجدا المركب فى مكانه، فنظر إلى دغفل مقررًا ألا يثنيه أمر عن العودة بوردة أميرة من الزمالك وبنفس الطريقة التى يأتى بها يوميًّا، فخلع نعليه ومشى على الماء. فى الظهور الأخير لعبده المر منذ أيام، روى أنه كان بجانب عادل فريرة فى مستشفى العجوزة، حين استرد وعيه فقال له: «الحمد لله على سلامتك.. الحمد لله الذى أنقذ الإنسان من الغرق». عادل أمسك بيد عبده وهمس واهنًا: «أنا لم أغرق يا عبده، أنا سقطت فى النيل.. لما شفت آخر المشوار». لما عاد الثلاثة لجلستهم بجوار عربة الكبدة، بدأ منير السايح ينسى الأسماء التى يطلقها يوميًّا على نفسه، وشيئًا فشيئًا لم يعدِ الصديقان يسألانه عن الاسم الجديد، وشيئًا فشيئًا كانتِ الكآبة تحل على دغفل، خاصة عندما يحكى عن أفاعيل المشرف الجديد على قطاع الحدائق، فهو ينتف يوميًّا ريش الطواويس ويهادى به، ويقال إنه صنع منها وسائد، أهداها لممثلة ناشئة. دغفل أخبر عبده وعادل بأن مسئول المتابعة لاحظ اختفاء حيوانات كثيرة وخاصة من المواليد، وهو يتحرى الأمر عرف أشياء غريبة لم تحدث من قبل فى حديقة الحيوان، كان أهونها ريش الطواويس، فقد اختفت مواليد النعامة ذكية، وكتب فى السجلات أن المواليد نفقت بسبب مرض اسمه الكلوسترديا، وهو مرض مميت، وفيما بعد ظهرت فى مصر أول مزرعة خاصة لتربية النعام، كان صاحبها ابن أخت المشرف الجديد، وذات صباح وجدوا وحيد القرن نافقًا بدون قرنه، وكُتب فى السجلات أنه نفق بسبب معركة شرسة بين قرينه فى موسم التزاوج، لكن مسئول المتابعة تعجب: «وهل يستطيع وحيد القرن أن ينتزع قرن أخيه بمنشار؟»، ثم وجد أن هناك من الدلائل ما يشير إلى أنه تم انتزاع القرن قبل قتل الحيوان وهذا ما أبكاه، وهو يتخيل فرط العذاب الذى تعرَّض له وحيد القرن، ومسئول المتابعة الذى كان يعرف أن هناك الآلاف من حيوان وحيد القرن التى تُقتل فى إفريقيا من أجل قرنها الذى يعتبره البعض أفضل منشِّط جنسى، سأل نفسه: هل امتد القتل من الغابات للحدائق؟ ولماذا تحدث هذه الأعاجيب منذ قدوم المشرف الجديد؟ مسئول المتابعة كتب تقريرًا، والتقرير ذهب للوزير، والوزير حوَّل التقرير للمشرف على القطاع، والمشرف رد بالمستندات الرسمية عن أسباب نفوق الحيوانات، والوزير حين التقى المشرف فى الحفلة التى أقامها له فى استراحة الملك فاروق فى الحديقة ابتسم، ولم يعرف أحد بعد ذلك كيف اختفى مسئول المتابعة. الأيام التى سبقت الحفلة التى أقامها المشرف على قطاع حدائق الحيوانات للوزير كانت أشبه بالجحيم لدغفل، دغفل رأى بعينيه نتف ريش الطواويس والنعام ليصنع منها مراوح يدوية للتهوية على الوزير وضيوفه، ورأى كيف سيتم نقل مقاعد وسرير استراحة الملك لتوضع تحت الكوبرى، الذى لا يعرف أن مَن صممه وشيَّده مهندس اسمه إيفل وقبل أن يشيد برجه الشهير فى باريس بعشر سنوات، ولكن أكثر ما جعل حياته جحيمًا، أنه كتب فى السجلات مقدمًا نفوق 20 غزالة بسبب مرض اسمه البريون، الذى يسبب الهزال الشديد ثم الموت، وكان هذا يعنى أن دخان الحفلة سيكون ممتلئًا برائحة الغزلان. مما رواه عبده المر فى ظهوره الأخير قبل أيام، أن المشرف وأعوانه، فكروا مع الممثلة الناشئة التى أهداها المشرف وسائد من ريش النعام والطواويس، فى وضع لمسة إفريقية على الحفلة، فاقترحتِ الممثلة أن يكون هناك راقصات إفريقيات، وأن يكون هناك فتيان سود يقومون بالخدمة، والمشرف سألها فى تشجيع : ومن أين نحصل على ذلك؟ الممثلة قالت دون أن تنتظر مكافأة: «دعِ الأمر لى»، ثم ذهبت لملهى ليلى فى شارع الهرم، الملهى كان اسمه: «أفريكانوس»، فى الملهى تقابلت مع المدير، ومَن قدم زجاجات البيرة وهى تتحدث مع المدير كان زنجيًّا اسمه لامبا. لو كان عبده المر يعرف لروى أن لامبا كان اسمه الحقيقى فى بلده الكونغو: تشابا تييفى باهمبولا، وكان جده مشاركًا فى أول حكومة ألَّفها باتريس لومومبا بعد الاستقلال من البلجيك، والبلجيك عاصمتهم بروكسل، وبروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبى. لو كان المر يعرف لروى، أن تشابا أتى للقاهرة مرغمًا هربًا من الحرب الأهلية فى كينشاسا، وأنه لما أتى لم يجد أمامه مثله مثل الهاربين، إلا أن يعمل فى الملاهى بما فى ذلك تقديم الدعارة الإفريقية التى بدأت تنتشر مع بداية التسعينيات لرخص الثمن، والأفارقة الذين كانوا يأتون للقاهرة طالبين الدعم للتحرر الوطنى، صاروا مرغمين على العمل فى الدعارة. فى الظهور الأخير لعبده المر منذ أيام، روى أنه لما كان بجانب عادل فريرة فى مستشفى العجوزة، حين استرد وعيه قال: «أنا سقطت فى الماء.. لما شفت آخر المشوار». فلما سأل المر فريرة: ماذا رأيت؟ رد عادل فريرة قائلًا: «رأيت دغفل يحفر قبره بيده». مدير الملهى وعد الممثلة الناشئة بتنفيذ كل الطلبات، وفى ليلة الحفلة حشد راقصات إفريقيات، وزنوجًا أمرهم بارتداء تلك الملابس الإفريقية التى تروج فى الأفلام، وكان من مهام لامبا مع آخرين مثله، الإمساك بمراوح الريش والتهوية على الوزير، الذى كان جالسًا على كرسى الملك تحت كوبرى إيفل، يتابع الراقصات فى رقص إفريقى كان المقصود أن يكون أكثر ابتذالًا، حتى أنهن كن يرقصن عاريات الصدور، ثم كن يصطففن رجراجات المؤخرات أمام الوزير، والمشرف يقدم له قطع اللحم- لحم الغزلان المشوى، وبينما كانت أصوات الطبول تزيد الحفلة اشتعالًا، هجم قطيع الأفيال على الحفلة، ليدمر كل ما وجده أمامه، ولامبا لما وجد الأفيال تدمر الحفلة، شعر بتلك الرائحة رائحة التحرر، فقفز على جذع شجرة ثم صوَّب ساق المروحة إلى قلب المشرف فسقط مغشيًّا عليه . انفضَّ الحفل ولم يمت أحد، إلا الفيل سامق ذكر الفيلة نعيمة التى قادتِ الهجوم، وفى اليوم التالى بدأتِ التحقيقات بعيدًا عن أى جهة رسمية، عُرف أن مَن دبَّر هجوم الأفيال على الحفلة هو دغفل، والمدير أتى بدغفل أمامه، ومما قاله له إنه إذا لم يخرج من الحديقة للأبد، فإنه سيقتل كل الأفيال، وعلى الأقل سيجز أنيابها، ولم تستغرقِ المقابلة أكثر من عشر دقائق، خرج من بعدها منير السايح الشهير بدغفل من الحديقة للأبد، بتوقيعه على قرار إحالته إلى المعاش، وكان أول مصرى يخرج من الخدمة فيما سُمِّى وقتها: بالمعاش المبكر. كُتب فى السجلات أن الفيل سامق نفق إثر ضربة قوية من أنثاه الفيلة نعيمة، فى تغافل فادح عن حقيقة أن الأفيال لا تقتل بعضها البعض، فمن أجل ذلك ميَّز الخالق الأفيال عن الإنسان، وتمت تسوية الأمور كلها، إلا أمرًا واحدًا هو ذلك الذى يتقافز بين أشجار حديقة الحيوان الكثيفة ويرمى المشرف بأكياس البول والبراز كلما تمشَّى فيها، ذلك الكائن كان لامبا، واسمه الحقيقى تشابا تييفى باهمبولا، وكان جده الأكبر وزيرًا فى أول حكومة شكلها باتريس لومومبا بعد الاستقلال، ولم يعرف أحد كيف يمسك به، فاقترح أعوان المشرف قطع أشجار الحديقة، التى يتقافز بين أغصانها الكثيفة، لكن ذلك لم يكن ممكنًا، وبسرعة وجدوا الحل فى تشذيب أغصان الأشجار بقطعها، وفى ذلك اليوم خرجتِ الصحف تتساءل عما سمته مذبحة الأشجار، إذ تعرضت كل أشجار حديقة الحيوان بالجيزة لقطع أغصانها، وإدارة الحدائق الجديدة ردت بأن ذلك من أجل القضاء على «أبو قردان» الذى استوطن الأشجار بكثرة، فصارت فضلاته تؤذى السكان القاطنين حول الحديقة، وكانتِ المعركة كبيرة شغلت الرأى العام الذى لم يعرف أن كل ذلك كان من أجل إسقاط تشابا. دغفل عبده المر صديق دغفل فى الثامن من أبريل من سنة الوباء 2020، أعلنت حديقة الحيوان فى بيان رسمى، نفوق آخر فيلة لديها وهى الفيلة نعيمة،عن عمر بلغ 40 عامًا، بعد ساعات من إصابتها بجلطة فى القلب، وكُتبت التقارير الصحفية وقالتِ التقارير الإعلامية إن الفيلة «نعيمة» مسجلة بهذا الاسم في سجلات الحديقة، منذ أن جاءت إليها عام 1983 برفقة فيل ذكر، لكنه نفق «متأثرًا بضربة قوية من نعيمة»، وبقيت هي وحيدة قيد السلاسل لسنوات طويلة بسبب شراستها، حتى استعانتِ الحديقة بعامل قديم على المعاش تمكَّن لاحقًا من ترويضها، وتم فك أغلالها قبل أربع سنوات فقط، لتتحرك بحرية، وصارت «مطيعة ومتجاوبة مع الجمهور بشكل رائع»، ولم يذكروا فى التقارير أن العامل اسمه منير السائح وشهرته دغفل. مما رواه عبده المر فى ظهوره الأخير قبل أيام، أن دغفل فى جلستهم الأخيرة عند عربة الكبدة،علَّق على وفاة نعيمة، بأن الأفيال هى الكائن الوحيد الذى يعرف موعد موته، وأنه قبل نفوقها تذهب لمكان موتها، ثم طلب منهما أن يصحباه إلى النخلة التى ما زالت قابعة عند تقاطع شارع البصراوى مع شارع بنى محمد، التى يذهب لها القط ناش عندما يغيب، ولما ذهبوا فعلوا ما أمر به دغفل وحفروا حفرة تسع جسد رجل تحت نخلة، نظر عادل لعبده وقال له: نهاية المشوار. فى الليلة التالية لم يأتِ دغفل لصديقيه عبده المر وعادل فريرة، وعندما ذهبا لحجرته فى شارع الرضوان وجداه ميتًا، ولم يكن هناك وقت للحزن والبكاء، فبسرعة فكر الرجلان فى كيفية تغسيله ودفنه، ومع حظر التجول انتظرا للصباح، ولما أتى الصباح أعلنا للجميع أن دغفل مات، البعض خاف معتقدًا أن الرجل مات متأثرًا بكورونا، وأعرض كثيرون عن المشاركة، لكن عبده المر وعادل فريرة استعانا بالجيران والأصدقاء القدامى، الذين التفوا حول الحجرة، ثم دخلوا ليشاركوا فى تغسيل الجثة ثم الصلاة عليها فى مسجد الرضوان، ثم دفنها تحت النخلة. عبده المر وعادل فريرة نزعا الثياب عن جثة صديقهما، وبينما يصبُّ عادل فريرة الماء على الجثمان، كان عبده المر يصرخ: انتظروا يا ناس.. انتظروا يا ناس.. منير مدقوق على يده صليب.. على يده صليب يا ناس. وفاة نعيمة فى حديقة الحيوان