في اللقاءِ التلفزيوني - الوحيد - الذي أجرَتْه الإعلاميةُ "أماني ناشد" مع الأستاذِ العقّاد قُبيلَ وفاتِه عامَ 1964م، لفَتَ انتباهَها - وقد كان اللقاءُ في بيتِ العقاد - منظرُ الكتبِ المرصوصةِ في أركانِ المنزل، على الأرضِ والمناضد، بجوارِ الأبوابِ وعلى حوافِّ النوافذ، وفي ثنايا كلِّ شيء. كان البيتُ مكتبةً كبيرة؛ فسأَلتْ الأستاذَ عن قراءاته واهتماماته، عن تطلعاته وأهدافه، عن ماهيَّةِ تلك الكتب، فأجابها بصوتِه الرصين: إنني أقرأ في كلِّ شيء، وعن أي شيءٍ، وحسبي من القراءة الاستزادة من الإحساسِ بالحياة. كان الأستاذُ يتحدث بثقةِ مَنِ اختبرَ الحياةَ وعجَمَ سهامَها فاستخلصَ ما فيها من جودةٍ وترك ما يشوبُها من قبح. يعلنُ أن القراءةَ معرفةٌ، والمعرفةُ حياةٌ. قرأَ في حياته التي امتدت لخمسةٍ وسبعين عامًا، 50 ألف كتابٍ على حد قوله، مما يعني أكثرَ من كتابين في المتوسطِ اليومي إن حذفنا سني طفولته المبكرة. وفي مكتبته 100 كتاب عن الحشرات - مثلًا - ولم تعدِمْه موسوعيتُه حظَّه من النظر والفكر المستقل، فهو صاحبُ فكرٍ لا يضاهيه أحد، ويكتبُ في كل مجال كتابةَ خبيرٍ، ففي كلٍّ كان مبدعًا لا مقلدًا. وحين أعددْتُ مبحثًا عن كتابِ الأستاذِ العقاد "التفكير فريضة إسلامية" عام 2017م، وحازَ على المركز الأول في مسابقة "اقرأ" أكبر مسابقات جامعةِ القاهرة، أذكر أنني أحصيتُ في بابٍ واحدٍ من أبوابه الثلاثةَ عشرَ، عشراتِ المراجعِ والأعلامِ والبلدان والطوائف والفِرَق والعلوم؛ وهذا في باب واحدٍ من كتابٍ صغيرٍ - 157 صفحة - وسط مجموعة كتبه ومقالاته. لقد استزاد العقادُ بقراءاته إحساسًا بالحياة، وجعلتْ من حاملٍ للابتدائيةِ أستاذًا لجيلٍ من الأدباءِ والفلاسفةِ وحاملي الماجستير والدكتوراة. لقد حطَّم العقادُ بقراءاته قيودَ الألقاب والبرامج الدراسية، وجعلنا ننظر للإنسان كقيمةٍ بذاته. تذكّرت هذا، إذ إنني قُبيل عيد الفطر، وجدتُ أحدَ أصدقائي قد نشرَ خبرًا على لسانِ الإمام الأكبر شيخ الأزهر دونَ أن يتحقق منه، وحين نبهته أن هذا الخبرَ مكذوبٌ، قام بحذفه مباشرةً وراسلني بدوره على حسابي الخاص: - كل سنة وأنت طيب يا صديقي.. أشكرك على التنبيه. - وانت بخير يا غالي.. هي صفحات مشبوهة يا صديقي هدفها التشويه.. وأعلم حرصك على الصدق. - ربنا يكرمك.. أنت ترفع من معنوياتي دائمًا. - أنت بذرة صالحة.. وغير قابل للانحراف كما أعلم. صديقي هذا من خريجي القصرِ العيني، وقد كنا متلازمين في المدينةِ الجامعية. كان دائمًا ما يجدُ لنفسه الفرصةَ للاستزادة من المعرفة، تجدُ بين يديه كتابًا لتوفيق الحكيم، أو روايةً لنجيب محفوظ، يقرأ في الفكر الإسلامي، في اليسار، في الرأسمالية، في الشيوعية. كان يبني فلسفتَه في الحياة بنفسه. وفي حوارنا الأخير وجدته متخبطًا، يقول في تحسر: - أنا تائه.. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. الاستقرار الفكري على فكرة واحدة - ولو خطأ - أهون من الصراع للوصول للفكرة الأصح. - ليس استقرارًا ياصديقي، بل خنوع.. يستطيع أي طفل أن يقوض دعائمه في لحظة.. فالأفكار المعلّبة كالعظام النخرة، ظاهرها الصلابة ولكن ضربةً منطقية واحة قادرةٌ على تحطيمها. - الله أعلم بعد الشدّ والجذب سنصل للفكرة.. أم نموت على الصراع. - حتى لو مت على الصراع، فهي شهادة طالب العلم الباحث عن الحقيقة. - ألم يكن من الأفضل لو أنفقتُ كلَّ طاقتي في توجهٍ واحدٍ من البداية؟ - لا يا صديقي وفّر طاقتك.. فالتوجه الواحد لا يحتاج إلى مزيد من الطاقة.. دع نفسَك فقط لتسير في تياره دون مقاومة.. وحينها لن تعدو كونك مخزنا لتراكمات الزمن ونفايات الفكر. يا صديقي إن جمودَ الفكر موتٌ محقق، ستكتشف حين تعتَرِك في صراعات الحياة فضلَ ما قرأته، وأهمية ما كنت عليه. أعلم أنك لا تجد الرابط الآن، ولكنك حتمًا ستجده، وتتصالح مع الحياة كما تصالح معها العقاد. وتستزيد إحساسًا بالحياة.