في الوقت الذي لم تحسم فيه دول العالم معركتها الصحية أمام فيروس كورونا المستجد، يكتسب الجدل حول إعادة فتح الاقتصادات زخما واسعا باعتبارها أولوية قصوى لإنقاذ ما تبقى من الاقتصاد العالمي الذي ظل قيد الوفاة الإكلينيكية منذ اتخاذ تدابير "الإغلاق الكبير" من أجل مكافحة انتشار العدوى. وتسبب طرح مسألة عودة النشاط الاقتصادي رغم استمرار تفشي كورونا في إشكالية "الاقتصاد أولا أم البشر" التي أربكت دوائر صنع القرار بدول العالم محدثة انقسامات داخلية بين جبهة تدعم عودة الحياة إلى طبيعتها وأخرى تخشى حدوث انتكاسة أو هجمة ارتدادية لفيروس كورونا ربما أكثر فتكا وانتشارا عن سالفتها تودي بحياة البشر والاقتصاد. ففي الولاياتالمتحدة، أكبر الاقتصادات العالمية، يخوض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غمار معركة شرسة من أجل فتح الاقتصاد الأمريكي، ضد حكام الولايات المطالبين بالتمهل لتفادي حدوث كارثة صحية مع القفزة المحققة في أعداد الإصابات التي تجاوزت 33 ألف إصابة. وأكد ترامب من جهته، أن خطة الفتح تتضمن فرض قواعد صارمة للتباعد الاجتماعي، إضافة إلى إجراءات لحماية كبار السن والمعرضين للخطر، لافتا إلى أن بلاده أجرت أكبر عدد من اختبارات فحص فيروس كورونا، وأنه حال عاد الفيروس في فصل الخريف ستكون البلاد مُستعدة لاحتوائه بسرعة. وشدد على أن الخطة تشمل ضمان توافر قدرة الولايات المختلفة على إقامة مواقع الفحص والاختبار الآمنة والفعالة بسرعة، وفقا لما جاء في الإرشادات، وتوفير معدات الوقاية الشخصية الكافية بسرعة وبشكل مستقل في المستشفيات، كما تقترح الخطة أيضا أن تظل المدارس المغلقة حاليا خلال المرحلة الأولى من إعادة الفتح. من جهته، أعلن اندرو كومو حاكم ولاية نيويوركالأمريكية تمديد حالة الإغلاق في الولاية حتى 15 مايو المقبل، موضحا أنه لن يلتزم بأى أمر يصدره الرئيس ترامب بإنهاء إجراءات العزل العام فى الولاية. وأضاف كومو فى مقابلة مع شبكة (سى.إن.إن) "إذا أمرنى بإعادة فتح (نيويورك) بطريقة تعرض الصحة العامة لأفراد ولايتى للخطر، فلن أفعل ذلك". ولم يحتاج الأمريكيون من أبناء الحزب الجمهوري سوى ساعات قليلة قبل التفاعل مع دعوة الرئيس بشأن "تحرير الولايات من قبضة الحكام"، حيث انطلقت مسيرات في عدد من الولايات من ضمنها ولايات تكساس وفيرجيناو مينيسوتا وميتشجان، ليأخذ الصراع القائم بين دوائر السلطة الأمريكية منحنا جديدا. ونقلت شبكة "سي إن بي سي " الأمريكية عن جوليان ايمونيل خبير بأسواق الأسهم لدى مجموعة "بي تي اي جي" قوله " تحول الحديث عن كورونا في الأيام الماضية حاليا إلى إشكالية فتح الاقتصاد عوضا عن التركيز على حصيلة الإصابات والوفيات". واضاف:" يمكن تفهم حيثيات هذا التحول في ضوء التحسن النسبي في الأنباء الواردة حول إصابات كورونا مقارنة بالأسابيع الماضية، وتجاوز بعض الدول فترة الذروة ليبدأ منحنى هبوط للفيروس". وذكرت شبكة" سي إن بي سي " أن الاقتصاد الأمريكي عاني كثيرا من إغلاق العديد من الصناعات وسط توقعات بتجاوز معدلات البطالة أكثر من 20% وانكماش بنحو 40% في الناتج الإجمالي للبلاد خلال الربع الثاني من العام الي جانب انهيار أرباح الشركات الكبرى التي تعد محركا لدفع عجلة الاقتصاد . من ناحية أخرى ، أظهرت نتائج استطلاع أجراه بنك أوف أمريكا أن 57% من مديري الصناديق يخشون اندلاع موجة ثانية من الفيروس أكثر شراسة من قبل، فيما ذكر بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس بمذكرته البحثية أنه في حال لم تختبر الولاياتالمتحدة قفزة ثانية في أعداد الإصابات فور استئنافها النشاط الاقتصادي، فعلى الأرجح لن تشهد أسواق المال تراجعات قياسية جديدة. وفي أمريكا اللاتينية، أطاحت أزمة إعادة فتح الاقتصاد بوزير الصحة البرازيلية لويز مانديتا، الذي يحظى بشعبية واسعة، بعد خلافات استمرت أسبوعين مع رئيس البلاد جايير بولسونارو في وجهات النظر حول إدارة أزمة وباء فيروس كورونا. وكتب مانديتا في تغريدة له عبر "تويتر": "تلقيت للتو إشعارًا بإقالتي من قبل الرئيس جايير بولسونارو، أود أن أشكركم على الفرصة التي أتيحت لي، لإدارة خدمتنا الصحية وللتخطيط لمحاربتنا ضد وباء فيروس كورونا، هذا التحدي الكبير الذي يواجهه نظامنا الصحي". وبحسب تقارير صحفية، دافع مانديتا طوال الوقت عن التباعد الاجتماعي، في حين يصر الرئيس البرازيلي على أن تأثير الوباء على الاقتصاد البرازيلي المتعثر يستدعي سرعة فتح الاقتصاد رغم خسائر الأرواح. على صعيد آخر، يرى محللون اقتصاديون أن تجربة سنغافورة تقدم نموذجا حيا لما يمكن أن يحدث إذا لم تتمهل الحكومات اتخاذ قرار تخفيف تدابير الإغلاق والعزل، فبعد أن تمكّنت الدولة الآسيوية من احتواء كورونا عبر تبنّي نظام فحص وتتبّع لمن خالطوا المصابين،عادت لتسجل قفزة في الإصابات خلال شهر أبريل الجاري، وأفادت وزارة الصحة، يوم الخميس الماضي، بوجود 728 إصابة جديدة خلال 24 ساعة، وهي أكبر زيادة في يوم واحد، ليصل إجمالي عدد الإصابات المسجلة هناك إلى 4427 حالة، بينها 10 وفيات. وفي آسيا أيضا، يعاود شبح كورونا الظهور مرة ثانية في الصين التي رغم احتفائها مؤخرا بالسيطرة على الوباء بعدما كانت مركز انتشاره عالميا ، عادت لتسجل إصابات جديدة بين مواطنيها القادمين من الخارج. وعلى الصعيد الأوروبي، تتحول الأنظار اليوم صوب ألمانيا، حيث يبدأ الاقتصاد الأكبر على مستوى القارة تلمس خطواته الأولى في العودة للحياة الطبيعية بعد إعادة فتح المحال التجارية ببعض المدن للمرة الأولى منذ شهر بعد نجاحها في السيطرة على جائحة فيروس كورونا بخلاف غيرها من دول القارة العجوز . وتسعى الحكومة الألمانية إلى بلورة استراتيجية محكمة تمهد لعودة النشاط الاقتصادي مع تفادي حدوث هجمات ارتدادية لفيروس كورونا أشد وطأة من قبل. وترتكز الاستراتيجية إلى تكثيف إنتاج أقنعة للوجوه الواقية وإجراء فحوصات واسعة النطاق للكشف عن أجسام مضادة للفيروس بين المواطنين الألمان. وقال وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير لصحيفة "بيلد أم زونتاج" الألمانية أمس الأحد: " إذا أردنا تمكين الجميع في ألمانيا من العمل والتسوق وركوب الحافلات بشكل آمن، سنكون بحاجة إلى ما يتراوح بين 8 إلى 12 مليار قناع سنويا، إذا أنتجنا جزءا كبيرا من ذلك في ألمانيا، سنكون قد حققنا الكثير". في السياق ذاته ، تسعى الحكومة الألمانية عبر أجهزتها الطبية والبحثية إلى أخذ عينات تمثيلية من المواطنين للكشف عن أجسام مضادة محتملة للفيروس لديهم. وقال رئيس ديوان المستشارية في برلين هيلغه براون في تصريحات سابقة أوردها موقع دويتشه فيله الألماني إن الهدف هو الحصول على نظرة عامة بشأن نسبة الأفراد الذين يحملون أجساما مضادة للفيروس في ألمانيا. وبخلاف حكومات أخرى، زادت أزمة كورونا من شعبية المستشارة أنجيلا ميركل بعد أن أظهرت نتائج استطلاع للرأي في ألمانيا عن أن شعبية حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تنتمي إليه ميركل، ارتفعت بدعم الجهود التي بذلتها الحكومة في احتواء الفيروس.