لم يكن فيروس كورونا الذي يفتك بالناس ويحصد الأرواح في كل بلدان العالم منذ انتشاره بمدينة ووهان بالصين هو الفيروس الأقوى، بل عرف العالم الكثير من الفيروسات والأوبئة التي هددت حياته وقتلت الملايين من البشر، ومن تلك الفيروسات ما عرفناه في عصرنا الحالي بداية من أنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر، ووصولا إلى إيبولا وذيكا وسارس وغيرها وصولا إلى كورونا الآن، وهذا الفيروس الذي حول حياة الناس في شتى دول العالم إلى سجن وجحيم بعد أن أزهق الأرواح وخلق حالة من الذعر والخوف من مغبة انتشاره حتى أجبر الناس على تغيير نمط حياتهم وسلوكهم وحبسهم في منازلهم إلى حين . وكالعلم الذي يسعى علماؤه إلى الاجتهاد وإجراء الدراسات العلمية والمعملية للتوصل إلى علاجات واكتشافات للأمراض المستعصية والعمل من أجل صحة الإنسان وسلامته كان الأدب هو الآخر ومن خلال أدبائه المبدعين سباقا في التوعية ولفت الانتباه بشكل مستقبلي لكل ما يمكن أن يهدد حياة الإنسان وسلامته ومحذرا من الأوبئة والكوارث والحروب وخطر كل منها على الإنسان والبشرية جمعاء، وكان للبعض منهم رؤى فلسفية ومستقبلية تجاه الكثير من القضايا، ومن بين هؤلاء الكاتب والمبدع الفرنسي ألبير كامي الذي عاش خلال القرن الماضي ونال العديد من الجوائز على أعماله الرائعة ومنها رواية «الطاعون» التي كتبها عام 1940 بالجزائر ونال عنها جائزة نوبل للأدب لروعتها ولنبل مقاصد كاتبها ورؤيته المستقبلية وحكمته نحو البشرية. وفي الرواية ينطلق الكاتب من خلال تسجيل أحداث واقعية حقيقية حدثت وتمكن من روايته بتسجيل أحداثها باقتدار عندما صور الأحداث من داخل مدينة وهرانبالجزائر التي كانت قد تعرضت في زمنه لتفشي وباء الطاعون بها وقت كانت فيه الجزائر تعج تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، ويعيش أهلها حالة من الفقر والجهل والبؤس ومن ثم يواجهون مرض الطاعون الفتاك وبرغم ذلك يقاومون الاستعمار ويتمسكون بالإرادة والعزيمة ويتحلون مع كل تلك المحن بالصبر والإيمان ، وبرغم كل تلك الأجواء القائمة صور الكاتب عادات وتقاليد الجزائريين ونمط حياتهم وتحليهم بالشجاعة لمقاومة الطاعون وتحملهم فراق أهلهم وذويهم وذلك على إثر انتشار الفئران الميتة بالمنازل والشوارع المليئة بالقاذورات الأمر الذي أدى لانتشار الطاعون بالمدينة واتخذت السلطات في حينه إجراءات صارمة وفرضت الحجر الصحي القاسي على أهلها برغم أن السلطات كانت تتعمد الكذب ونفي الوباء والتقليل من شأنه رغم موت الفئران وموت الناس. وفي الرواية يقول كامي: « إن كل ما يستطيع الإنسان أن يربحه هو معركة الطاعون ، والحياة تعني عنده المعرفة والتذكر» وبالفعل فقد تمكن كامي من أن يحول مدينة وهران وانتشار الطاعون فيها إلى سجن كبير فلا أحد يستطيع أن يخرج منها ولا أن يدخلها أحد، ومن خلال الطبيب بيرنارد ريو أحد أهم أبطال الرواية هو الذي اكتشف حقيقة موت الفئران بطريقة غريبة جعلته يتوقع حدوث مكروه جلل بالمدينة، وبالفعل فقد انتشر الطاعون ليحصد بقوة أرواح الناس وليخلق حالة من الرعب والهلع من الوباء حتى يتمكن الطبيب بمساعدة أشخاص الرواية من مقاومة المرض وإيجاد علاج له وبعودة الحياة من جديد لمدينة وهران بعد أن تمكن الوباء من التفريق بين الأسر التي كان من بينها زوجة الطبيب ريو نفسه عندما ماتت زوجته التي لم يتمكن من ملازمتها بالمستشفى أو حتى المشاركة في مراسم دفنها لانشغاله بحياة الناس وتطوعه للعمل الإنساني. وتطرح تلك الرواية أسئلة فلسفية حول ماهية القدر وعن الوضعية الإنسانية للبشر واختبارها عند المحن والكوارث ، كما تساءل كامي عما إذا كان بإمكاننا تصور المعاناة كتجربة مشتركة لا كعبء فردي، وبدا أن مفتاح الحل في ذلك هو الاعتراف بعالمية المعاناة باعتبارها من خلال رواية الطاعون ومن ثم كورونا الذي يهددنا الآن حدث عالمي استثنائي، وتخبرنا الرواية بالتفكير في مسئولياتنا أي بالمسئولية الحقيقية والصادقة من جانب الدول والحكومات تجاه الناس. وتطرح الرواية أيضا الصراع بين السعادة الفردية والالتزام الأخلاقي تجاه المجموع وذلك بعد أن كان الطبيب بالرواية مثلا أعلى في التضحية والفداء من أجل الآخرين، وليبقى درس الطاعون بالرواية درسا أخلاقيا يدعو بأن ننظر لأنفسنا كأعضاء فاعلين في المجتمع وليس مجرد أشخاص يعيشون حياة فردية منفصلة عن الآخرين، إذ يجبرنا الوباء وكما يحدث مع تداعيات كورونا الآن بعدم التفكير في أنفسنا فقط سواء كنا أفرادا أو جماعات أو دولا بل بالتفكير في مساعدة الآخرين ومدى تأثير أفعالنا على محيطنا. وفي زمن الكورونا وغيره من الفيروسات القادمة يتوجب على الدول الكبرى في العالم سرعة التركيز على حماية الإنسان والعمل من أجل سعادته ورفاهيته ، وعلى حماية المناخ والبيئة النظيفة، والعمل من أجل سلامة الكون الذي نحيا به جميعا وليس من أجل الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية في زمن العولمة المتوحشة ونهم الدول الليبرالية التي مازالت تصر على المضي قدما في وحشيتها وخراب الكون وفساده دون وازع من ضمير، ودون اتخاذ العبر مما حدث في طاعون كامي وما يحدث الآن للعالم من جراء فيروس كورونا القاتل الذي أسقط غرور الدول المتغطرسة.