فى الذكرى الثامنة والستين لملحمة الشرف والعزة لرجال الشرطة المصرية علِموا الصغار أن أجدادهم كانوا رجالًا واحكوا لهم كيف عشق هؤلاء الأبطال الموت فداء للوطن ورفضوا أن تنحنى رقابهم أمام غطرسة الاحتلال حتى وإن كان الثمن هو حياتهم ذاتها. يوم عظيم من أيام مصر الخالدة يستحق أن نحتفل به كل عام وأن نجسد تفاصيله فى أعمال درامية ضخمة شبيهة بما شاهدناه مؤخرًا من أعمال سينمائية كفيلم الممر فهذه بطولة رائعة تمنحنا فخرًا لابد أن نورثه لصغارنا وفصل من تاريخ كفاح شعبنا الأبى ضد الغطرسة وذكرى للدماء الطاهرة التى سالت لأجل الوطن وحلقة مميزة من حلقات الكبرياء والشموخ المصرى الذى لا يهتز مهما كانت التضحيات عبر تاريخنا الطويل الذى نسترشد به فى بناء مستقبلنا. الزمان 25 يناير 1952 والمكان فى الإسماعيلية التى كانت جزءًا من منطقة قناة السويس واقعه تحت سيطرة قوات الأحتلال الأنجليزى بعد معاهدة 1936 والتى نصت على انسحاب تلك القوات من عموم الأرض المصرية لتتركز فقط هناك فى القناة ولتنشط عمليات المقاومة من الفدائيين المصريين ضدهم والتى كبدت القوات البريطانية خسائر فادحة وكانت تمثل استنزافًا ماديًا وعسكريًا يزداد يومًا بعد يوم فقام المحتل بتقسيم محافظة الاسماعيلية الى قسمين أحدهم حى افرنجى تقيم فيه قواتهم والآخر حى بلدى يسكن فيه المصريون وتنطلق منه عمليات المقاومة التى أصبحت كابوسًا يؤرق الضباط الإنجليز فقرروا ترحيل سكان الحى العربى وإحكام سيطرتهم على المدينة بالكامل مهما كان الثمن. فى مبنى محافظة الاسماعيلية التى كان يؤمنها ويتجمع بها ضباط الشرطة المصرية كانت الملحمة ضد الصلف والغطرسة حيث قام قائد القوات البريطانية فى هذا التوقيت الجنرال «إكسهام» بحصار المبنى وتوجيه أوامره للضباط المصريين بمغادرته وقدم فى منتصف الساعة السادسة صباحا إنذارا إلى ضابط الاتصال المصرى المقدم شريف العبد طلب فيه أن تسلم جميع قوات الشرطة وبلوكات النظام فى الإسماعيلية أسلحتها وأن ترحل عن منطقة القناة فى صباح اليوم نفسه بكامل قواتها وهدد باستخدام القوة فى حالة عدم الاستجابة إلى إنذاره فقام اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام وعلى حلمى وكيل المحافظة بالاتصال هاتفيا على الفور بوزير الداخلية وقتئذ فؤاد سراج الدين فى منزله بالقاهرة فأمرهما برفض الإنذار البريطانى ودفع القوة بالقوة والمقاومة حتى آخر طلقة وآخر رجل. فى السابعة صباحا بدأت المجزرة الوحشية وانطلقت مدافع الميدان من عيار 25 رطلا ومدافع الدبابات (السنتوريون) الضخمة من عيار 100 ملليمتر تدك بقنابلها مبنى المحافظة وثكنة بلوكات النظام بكل عنف حتى سالت الدماء الطاهرة لضباط وجنود الشرطة المصرية ثم أمر الجنرال إكسهام بوقف الضرب لمدة قصيرة لكى يتلو على رجال الشرطة المحاصرين فى الداخل إنذاره الأخير وهو التسليم والخروج رافعى الأيدى وبدون أسلحتهم وإلا فإن قواته ستستأنف الضرب بأقصى شدة ولكن الرد جاءه مرة ثانية بالرفض وهو ما أصاب ضباط الاحتلال بالدهشة وجعلهم يكملون مذبحتهم الدموية الشائنة فانطلقت المدافع والدبابات وأخذت القنابل تنهمر على المبانى حتى حولتها إلى أنقاض بينما تبعثرت فى أركانها الأشلاء وتخضبت أرضها بالدماء الطاهرة. وبرغم ذلك العنف المفرط وتلك القوة غير المتكافئة ظل أبطال الشرطة صامدين فى مواقعهم يقاومون ببنادقهم العتيقة من طراز «لى انفيلد»، أقوى المدافع وأحدث الأسلحة البريطانية حتى نفدت ذخيرتهم ولم يستطع الجنرال إكسهام أن يخفى إعجابه بشجاعة المصريين فقال للمقدم شريف العبد، ضابط الاتصال بالمحافظه وقتها: «لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا» وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من الجنرال إكسهام بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم. بطولة عظيمة من بطولات الشرطة المصرية والشعب المصرى وفصل من فصول الشرف والعزة للعسكرية المصرية التى قدمت ومازالت تقدم للوطن كل يوم تضحيات جليلة وشهداء أبرار يضحون بأرواحهم من أجل الواجب وصيانة الأرض والعِرض وحفظ الأمن وهم يتصدون لقوى الإرهاب والشر والتطرف دفاعًا عن أمن واستقرار مصر وحماية جبهتها الداخلية وتقديم جميع التضحيات كل يوم وضرب أروع الأمثلة فى الدفاع عن الوطن بعزيمة لا تلين أو تنكسر ويبذل رجالها أرواحهم من أجل مصر وشعبها العظيم. كل عام وشرطة مصر وجيش مصر وشعب مصر نسيج واحد متشابك لا فواصل بينهم وليحفظ الله تلك المؤسسات الامنية فهى ركيزة البناء وعماد التنمية فى أى مجتمع يسعى ليحجز لنفسه مكانًا مميزًا تحت شمس الحياة ولتظل تلك العلاقة الفريدة المتينة بين أبناء الشعب المصرى مدنيين وعسكريين سائدة فهذا هو الرهان الذى اجتهد أهل الشر دائمًا أن يكسبوه وأن يكسروا تلك الروح وذلك التلاحم فباءت محاولاتهم بالفشل فهذا نسيج متشابك لا يتمزق ابدًا.. حفظ الله رجالنا وابطالنا ورحم الله شهداء مصر الأبرار.. حفظ الله الوطن.