مظاهرات حاشدة، وقطع للإنترنت، وسقوط عشرات القتلى بعد التعامل الأمنى المفرط فى العنف، وحظر للتجوال.. تلك حصيلة إجمالية لمظاهرات العراق الضخمة خلال الأسبوع الفائت ببغداد ومناطق أخرى، ولكنها ليست ككل المظاهرات السابقة، لا سيما وأنها تتزامن مع مرور نحو عام واحد فقط على حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. وأولى مظاهر تلك الهبة الشعبية العاصفة، أنها كانت «شيعية بامتياز» لكونها انطلقت فى المناطق الشيعية ببغداد وفى المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية أيضًا، معنى ذلك أن هناك استياءَ واضحًا للقاعدة الشعبية الأوسع التى تعتمد عليها الحكومة العراقية حاليًا. وفى هذا السياق، فإن الغياب السنى عن تلك المظاهرات يعود لوقوع السنة بين سندان الاتهامات بالصمت والتخلى عن المسئولية الوطنية، ومطرقة من يتهمهم بالدعشنة والانتماء لحزب البعث وغيرها من التهم التى طالما لصقت بهم فى المظاهرات السابقة؟!. ورغم ذلك لا ننسى مظاهرات السنة مؤخرًا تضامنًا مع الفريق عبد الوهاب الساعدى نائب قائد قوات جهاز مكافحة الارهاب العراقية (014-2019م) بعد نقله إلى وزارة الدفاع. وقد أمّ هذه المظاهرات العاصفة ببغداد جيل من الشباب ممن هم تحت وفى العشرين من أعمارهم، وهو جيل نشأ والشيعة فى السلطة، ولم يعيشوا أزمة «المظلومية» التى استندت عليها القوى السياسية فى خطابها للجمهور الشيعي، بعد مرحلة ما بعد سقوط الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين فى عام 2003م. وأمام أخطاء الحكومات المتلاحقة، فإن هذا الجيل يعتبر نفسه فاقدًا لحقوقه الأساسية إذ يفتقرون للمدارس والمستشفيات والخدمات الأساسية، وبالتالى فقد نفد صبرهم، وليس لديهم ما يخسرونه! وهناك مظهر آخر لافت للنظر بتلك المظاهرات، وهو الرفض الشعبى الواسع للنفوذ الإيرانىبالعراق، وهو ما تمثل فى رفع المتظاهرين لشعار «إيران بره بره.. بغداد تبقى حرة»، رافضين بحسم ارتهان الإرادة العراقية سياسيًا وعسكريًا لإيران وميليشياتها مثل الحشد الشعبي، وكتائب حزب الله العراقي، وهى الميليشيات التى استباحت دماء العراقيين.. سنة وشيعة.. ويكفى مذابحها فى جرف الصخر ببابل، والتى تُعتبر الصندوق السود لهذه الميليشيات حيث الجرائم وتجارة المخدرات وتجارة الأعضاء البشرية، ومعامل تصنيع الأسلحة، ومخازن الأسلحة المتطورة، والحديث يطول عن مناطق أخرى مثل: الصقلاوية، والرزازة، وسامراء وغيرها؟!. وما بين رفض الفساد والنفوذ الإيرانى، تبقى مظاهرات بغداد شاهدًا حيًا على معاناة أهلنا فى العراق، والتى نتمنى أن تنتهى قريبًا بحيث نردد مع الشاعر الكبير نزار قبانى فى قصيدته الرائعة عن بغداد قوله: «مدى بساطى واملئى أكوابى // وانسى العتاب فقد نسيت عتابى.. عيناك يا بغداد منذ طفولتى // شمسان نائمتان فى أهدابي.. لا تنكرى وجهى فأنت حبيبتي// وورود مائدتى وكأس شرابى».