على مسافة وسطى ما بين المبدع والمتلقى، كان يقف رجاء النقاش.. ليأخذ من «رحيق» الإبداع أعذبه ليودعه فى عقل ووجدان المتلقين.. حتى يرتدى «النص» رداءً جديدًا، مغايرًا، إذ تتفتح مغاليقه وتتسع آفاقه رويدًا.. رويدًا، كمقطوعة موسيقية حالمة تتصاعد نغماتها.. متسللةً إلى الروح بدون استئذان. ورجاء النقاش (1934-2008م)، والذى تحل يوم 3 سبتمبر الجارى ذكرى ميلاده الخامسة والثمانين، من أولئك الذين يستعصون على التصنيف، فهو أكبر من «ناقد»، وأعلى من «مبدع».. بل هو «نسيج خاص»، كطائر يغرد خارج السرب. غير أنه - فى غنائه المتفرد- يحمل دائمًا أثرًا من «وشم الحقيقة»، لأنه باختصار صادق مع الناس مثل صدقه مع النفس. منذ أن قدم من بلدته «منية سمنود- دقهلية» إلى القاهرة لأول مرة عام 1951م لكى يدخل الجامعة إلى أن توفاه الله، ظل محتفظًا بروحه «الملائكية» وبنقاء سريرته، التى لا تحمل ضغينةً لأحد، حتى ولو ممن خالفه أو حتى أساء إليه يومًا ما، وتلك شيمة «الكبار» الذين يتغاضون عن الصغائر والأحقاد حتى تتواصل الحياة. لقد ظل رجاء يعمل فى بلاط صاحبة الجلالة حتى بعد أن تعدى السبعين من عمره، كأنه ما زال محررًا جديدًا يشق طريقه نحو النجاح، بنفس الإصرار والجهد والمثابرة، هذا الخجول الذى تحمر وجنتاه كلما تناثرت من حوله عبارات المديح والثناء بتواضع حقيقى بعيدًا عن أى تصنع أو زيف. هذا الخلوق الذى توافرت فى شخصيته تلال من العفة والنزاهة والأمانة، وترفعًا عن الصغائر، وابتعادًا عن الطمع الذى يدفع البعض لمحاباة هذا أو ذاك، ولو على حساب المعايير الأخلاقية والأدبية. هو ذلك «الإنسان» الذى منّ الله عليه بالنجاة من داء «الشللية» المستشرى بين أهل الفن والأدب، فلم تكن له «شلة» إلا شلة النجوم من المبدعين الحقيقيين الذين يحتفى بإنتاجهم - ولو على البعد - مصريين وعربًا وأجانب.. قديمًا وحديثًا، ومن منا ينسى اكتشافه لعمالقة الأدب كمحمود درويش، وسميح القاسم، وأحمد عبد المعطى حجازي، والطيب صالح، فضلًا عن عشقه الخاص لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ عبر كتابيه المهمين عنه: صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، فى حب نجيب محفوظ. ويحفل تاريخ رجاء الصحفى بالعديد من المناصب منذ أن كان محررًا أدبيًا بروز اليوسف، وأخبار اليوم، والأخبار حيث تولى رئاسة تحرير مجلتى: الكواكب والهلال، ومجلة الدوحة القطرية، فضلًا عن رئاسة مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتليفزيون. كما أن له مجموعة من الكتب النقدية الرائعة مثل: الانعزاليون فى مصر، تأملات فى الإنسان، أدباء ومواقف، عباس العقاد بين اليمين واليسار، قصة روايتين، مقعد صغير أمام الستار، كلمات فى الفن.