فجر ليلة 17 من ديسمبر اقتحمت قوات الاحتلال الصهيونى منزلها، وألقت القبض عليها بعنف شديد وهى الصغيرة التى لم يتعد عمرها الستة عشر عامًا، وحينما ذهبت أمها لمركز شرطة بنيامين الصهيونى للسؤال عن ابنتها تم اعتقال الأم أيضًا، الاعتقال جاء حينما تصدت الصبية الصغيرة لاثنين من جنود الاحتلال حاولا الصعود إلى سطح منزلها لإطلاق النار على الفلسطينيين وكانوا قد أصابوا طفلا بنيرانهم لم يتعد الأربعة عشر عامًا مازال فى غيبوبة داخل المستشفى، وحينما رفض الجنديان أن يغادرا منزلها قامت بصفعهما على وجهيهما دون أن ترهبها أسلحتهما النارية ولا ملابسهما العسكرية. لم أكن أعرف اسمها حين كتبت عنها الأسبوع الماضى وقت أن شاهدت لها فيديو على اليوتيوب وهى طفلة صغيرة تقف بشراسة وقوة تتحدى جنود وضباط الاحتلال الصهيونى التى اعتقلت شقيقها وكان عمره آنذاك خمسة عشر عامًا «والله لناخد بتار مصطفى وتار كل الأسرى اللى أخدتوهم والشهدا اللى قتلتوهم، إذا أخدتوا شجرة زيتون بنزرع 100 شجرة زيها، وين وديتو مصطفى؟ ابعدوا عنا بدل ما تقتلوا ولاد صغار عشان تاخدوا المصارى، يا فاجر، مش بنخاف من منظرك إذا بتفكر حالك لابس درع وماسك سلاح راح تخوف الفلسطينية احنا ما بنخاف، رايحين ناخد الحرية ورايحين تموتوا منا يا كلاب، اللى بتعتقلوهم أشرف من عيلتك يا جاسوس يا محتل». فى تظاهرة أخرى استطاع جند الاحتلال فضها إلا من عهد وأختها وأخيها وأمها، تحاول الأم أن تقنع ابنتيها الصغيرتين بمغادرة المكان والعودة للمنزل إلا أن الصغيرتين ترفضان بشدة، وتتشبثان بمكانهما رافعتين العلم الفلسطينى فى وجه جنود الاحتلال، إحداهما تحاول اقناع أمها أن تتركها وتعود هى قائلة: «ماما ارجعى انت إحنا بنعمل خطة ومش هنرجع إلا لما يغادروا أرضنا» فى تلك الأثناء يتم اعتقال الأم لرفضها أن تترك ابنتيها وسط جنود الاحتلال وترحل، بينما تحاول الشقراء الصغيرة تخليص أمها من أيديهم وتتشبث بجسدها وهى تبكى، تنهرها الأم عن البكاء قائلة بقوة وحسم «متخافيش، متعيطيش، أنت قوية لا تخافى» ثم ترفع يدها بعلامة النصر وتردد «فلسطين» بينما يضعها الجنود فى سيارة اعتقال مصفحة فتمضى السيارة مسرعة تطوى تحت عجلاتها أسفلت الطريق، تهرع الصغيرة الشقراء خلف السيارة، تصرخ باكية وتنادى «ماما» ولما تنفلت السيارة من أمام عينيها فتفقد الأمل فى اللحاق بها، تعود مهرولة إلى الضابط ذى الرتبة الكبيرة وقلبها مملوء بالتحدى والإصرار على استكمال ما بدأت وكأنها تمتلك مفاتيح القوة كلها، تحدثه بإيمان وإصرار وقوة لا حد لها قائلة «مش راح تمشى من هنا إلا لما ترجعها، والله لو قعدت عشرين سنة مش هتمشى غير لما ترجعها». لم أكن أعرف اسمها حين كتبت عنها مقالى الأسبوع الماضى بعنوان «جيل يمنحنا الحياة» لكنى عرفتها حين عادت أخبارها وصورها تتصدر شاشات التلفاز والأخبار العالمية. لم يكن جبروت وقوة هذه الصغيرة مصادفة، ولم يكن وليد اللحظة، ف «عهد التميمي» يا سادة هى مناضلة وناشطة فلسطينية ضد جيش الاحتلال الصهيونى منذ نعومة أظافرها، من مواليد قرية النبى صالح فى 30 مارس2001، برزت إعلاميًا منذ كانت يافعة من عمرها، حيث لفتت أنظار العالم بتحديها للجنود الإسرائيليين الذين اعتدوا عليها وعلى والدتها الناشطة ناريمان التميمى فى مسيرة سلمية مناهضة للاستيطان فى قرية النبى صالح الواقعة غرب رام الله، فى أغسطس 2012، فى مشهد تناقلته وسائل إعلام عالمية. فى 19 ديسمبر 2017، عادت عهد التميمى اليوم وعمرها 16 عامًا لتتصدّر صفحات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعى لتصديها للجنود، وقد بيّن فيديو تم تداوله على نطاقٍ واسع صفعها لجنديين مسلحين، ما أدى إلى اعتقالها فجر ذلك اليوم من منزلها حين اعتقالها. عهد التميمى لا تزال طالبة فى الثانوية العامة الفرع الأدبى فى مدرسة البيرة الثانوية للبنات، ابنة لعائلة مناضلة حرة رفضت الانصياع لقوانين الاحتلال وتصدت لعمليات الاستيطان بكل قوة، فقد اعتقل والد عهد تسع مرات بعد أن تعرض للضرب والتعذيب أمامها واعتقلت أمها خمس مرات واعتقل شقيقها الصغير «الطفل» مرتين، بينما استشهد خالها وعمها فى مواجهات مع الاحتلال الصهيونى، وبدلًا من أن يصيبها كل هذا بالخوف منحها من قوة الشخصية ومن البطولة ما يكفى لتكون اليوم «أيقونة» المقاومة الفلسطينية، فى مقابلة تليفزيونية وكان عمرها أربعة عشر عامًا قالت حين سألتها المذيعة عن هذه القوة فى مواجهة جنود الاحتلال، فردت «فلسطين ربتنا على ألا نخاف من أشكال زى أشكالهم» أثارت عهد روح النضال فى نفوسنا وأعادتنا إلى حيث النبض الذى عاد يضخ فى أوردتنا من جديد، كما فتحت شهية المبدعين ليكتبوا عنها الأغنيات، فقد كتب الشاعر والملحن محمد يوسف أغنية يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعى عن عهد تقول بعض كلماتها «العهد عهدك يا قمر يا كل العهود، يا ما النهار ع الليل صبر وف لحظة كان زى الأسود، عدى الزمان خطى المكان داس ع الهوان وبعزم فاق عزم الجدود، وردة وروايحها والنور ملامحها، وقفت ولا خافت ظلم العدو مرة، بنت العرب عاشت بنت الصمود حرة» بعد كل هذه الإحباطات المتتالية لنا كعرب، كنا قد بدأنا نفقد الأمل فى أننا أمة ستتحرر يومًا ما وسط كل هذا الضعف والتشتت الذى نعيشه، جاءت عهد، الطفلة الشقراء ومثيلاتها ينبتون فوق أرض النضال التى ارتوت بدماء الأطهار الشهداء المناضلين على مر التاريخ، لتعيد لنا الأمل وتجدد فينا نبض الحياة وتؤكد أن القدس عائد، وفلسطين لن تضيع، وقضيتنا لن تموت، وإننا «راجعون» وفوق هذه الأرض تنبت مليون «عهد» سوف يوفون بالعهد يبثون فينا الحماس من جديد، يحيون ما مات من أمل، ويشعلون مرةً أخرى ثورة الغضب فينا، ويمنحوننا كل هذا الجمال وسط كل هذا الكم من القبح الذى أحاط أوطاننا، مليون «عهد» يوحدون صفوفنا مرةً أخرى خلف قضيتهم، ويجمعون وطننا العربى مرةً أخرى على حلم واحد، فعلت عهد ما لم يفعله الرجال، ولملمت عهد ما بعثره فى الزمن وطوت صفحات من الضعف والخنوع والتواطؤ والمذلة تحت قدميها الصغيرتين، عهد التميمى هى الحدث الجلل الذى جاءنا يحيينا من بعد موات، ويضخ فينا نبض الحياة، ومن قلب اليأس والألم مليون عهد ينبتون فى أوطاننا يعيدون لنا مجد أمة، ويفتحون الباب على مصراعيه للحرية والتحرر ويرفعون أعلام النصر فى كل ربوع بلادنا، وفوق منبر القدس الحرة.