قادتني تصاريف القدر، لأقضي يوم 'الكريسماس' في واحدة من أفقر قري ونجوع مصر .. لقد كانت الصور والمشاهد التي نقلها لنا الزميل 'سالم المحروقي' من القرية 'الساقطة' من ذاكرة المسئولين، مأساوية، ومقلقة للضمير الإنساني. توجهت قبل غروب شمس ليلة عيد الميلاد 'السبت الماضي' إلي القرية التي تبعد عن مدينة قنا بأكثر من 06 كيلو مترًا .. كنت بصحبة اللواء 'عادل لبيب' محافظ الإقليم .. والذي أصر أن يصطحب معه كافة رؤساء المصالح والمسئولين عن الإدارات المختلفة بالمحافظة .. كان المحافظ قد اتخذ قرارًا فوريًا فور علمه بالمأساة بأن يجند كل مسئولي المحافظة لانتشال تلك القطعة من أرض مصر من 'سراديب النسيان'. بعد الغروب بقليل، وصلنا إلي 'حاجر الدهسة' بعد أن استعنا بمواطن من 'فرشوط' ليدلنا علي الطريق إليها .. قرية رابضة في حضن الجبل .. خيم عليها الإهمال من كل جانب .. حتي أن سكانها الذين احتشدوا بالآلاف في استقبالنا، قالوا بلسان واحد 'تلك المرة الأولي التي يزورنا فيها مسئول' .. فقد اسقطوا من ذاكرة الحكومات المتعاقبة، ولم تطأ أقدام نائب برلماني واحد أو عضو مجلس محلي أرض بلدتهم. أصوات زاعقة .. وصرخات تدوي في عنان السماء .. حاصرتنا، ونحن نشق طريقنا بصعوبة وسط أمواج البشر إلي داخل القرية .. مدرسة يتيمة بلا خدمات .. بقايا وحدة صحية بلا أطباء .. عشش، وبيوت متناثرة .. الكثير منها بلا أسقف .. المعدمون يفترشون الأرض .. ويلتحفون بالسماء .. في ظل برد قارس لا يرحم. الوجوه مزروعة بالغضب، والألم، والقلوب تكاد تتحجر من فرط الأوجاع .. أناس يعيشون علي العدم .. ويعانون شظف العيش من كل اتجاه. كانت ليلة 'الكريسماس' .. ولكن الساعات التي قضيناها بين آهات المعدمين، لم نلمس فيها أثرًا لتلك المناسبة التي استعد لها أهل 'العاصمة والحضر' .. لم يتذكر أحد ليلة العبور إلي عام جديد .. بل كان الجميع يلهث، بحثًا عن توفير لقمة العيش، وعن الدواء المفقود، وعن الغياب التام لكل الخدمات. لا يعرف أهل 'حاجر الدهسة' شيئًا عن 'بابا نويل' ولا هداياه، ولا عن 'شجرة الكريسماس' وأضوائها الخلابة .. بل إن غالبيتهم محرومون من الكهرباء .. ويغرقون في 'دياجير الظلام'. يحلم بعض الناس في 'العاصمة والحضر' بعام جديد، يحذوهم فيه الأمل بالنجاح، ويسعي آخرون لتكديس الثروات .. ولكن أهل 'الحاجر' يحلمون فقط برغيف خبز نظيف .. ودون معارك .. أو تدافع .. قبل نفاده من 'الطابونة' اليتيمة بالبلدة .. وعلي الدواء المفقود .. يحلمون ببطانية تقيهم برد الشتاء القارس .. وبكوب ماء لا يصيبهم بالأمراض. أحلام بسيطة .. لبسطاء من أبناء هذا الوطن .. سقطوا من ذاكرة الحكومات المتعاقبة .. ورجالاتها .. الذين تجاهلوا مشكلاتهم الأليمة .. وتركوهم عرضه للمتاعب .. تتقاذفهم من كل اتجاه. شعرت وأنا بينهم بغصة في قلبي، وبآلام لا تنقطع علي واقعهم المأساوي .. كان في المقابل جهود تبذل لإنقاذ هؤلاء المعذبين .. اتصالات حثيثة أجراها الأستاذ 'مصطفي بكري' مع الفريق 'سامي عنان' رئيس أركان حرب القوات المسلحة وعضو المجلس العسكري، والدكتور 'السيد البدوي' رئيس حزب الوفد .. وتحركات علي الأرض لمحافظ قنا .. اللواء 'عادل لبيب' والذي كلف كافة الجهات بمد يد العون للحاجر .. بشكل عاجل. ساعات قضيناها بينهم في ليلة عيد الميلاد .. لم نشعر فيها بعام جديد أشرق علي العالم .. بل عشنا لحظات من الألم مع من يعانون الفاقة، والحاجة .. فيما العالم يطلق ألعابه النارية، ويقيم الاحتفالات الصاخبة بقدوم 'الكريسماس' الذي لا يعرف أحد عنه شيئًا في 'حاجر الدهسة'.