كنت أجلس مع زوجتي أمام شاشة التليفزيون لنشاهد علي إحدي القنوات الفضائية متابعة حية لوقائع محاكمة الرئيس السابق ' المخلوع ' مبارك في قضية قتل المتظاهرين ، وقد دار بيننا حوار ثوري – عاطفي كانت زوجتي تمثل الجانب العاطفي في الحوار ، مثلها في ذلك مثل البعض من عامة الشعب الذين تغلب عليهم المشاعر أكثر من غلبة العقل الذي يزن الأمور بمقدارها الصحيح . فالذين يتعاطفون مع الحدث والمشاهد لهم منطقهم الذي نحترمه وإن اختلفنا معهم كاختلاف الليل والنهار ، حيث إنهم يرون أن الرجل طاعن في السن ، وقد تجاوز الثالثة والثمانين ، ولم يعد قادرا علي الوقوف ، وأنه مريض بمرض خطير ، وأنه - وإن أخطأ - فلابد أن تغفر له حسناته خلال الثلاثين عاما الماضية ما اقترف من أخطاء ، ولعل أهم إنجاز يقدمه الاتجاه المتعاطف أنه كان صاحب الضربة الجوية الأولي في حرب أكتوبر التي رفعت رأس كل المصريين ، كما أنه استطاع أن يحافظ علي السلام طيلة حكمه ، مما ساعد علي حقن دماء الكثير من أبنائنا لو أنه أقحم مصر في حرب جديدة مع العدو الإسرائيلي . وبطبيعة الحال فإنني كنت أشاهد اللقطات متأثرا بما يحدث كأي إنسان له قلب ومشاعر ، ولكنني – في الوقت نفسه – كنت أعمل عقلي لأرد علي المبررات التي يسوقها هذا الاتجاه المتعاطف من ضرورة الرحمة بالرجل وعدم محاكمته " وبهدلته " وإذلاله وهو في هذه السن من منطق أن "الرحمة فوق العدل " ، وجاء ردي بسيطا دون تعقيد مركزا فيما يلي : أولا : أن مبارك بالفعل كان وقت حرب أكتوبر قائدا لسلاح الطيران ، ولكن لسنا علي يقين من أنه ركب طائرة وقادها بالفعل أثناء الحرب ، فعادة ما يقوم بالطيران في الحروب من هم تحت إمرته ، باعتبار أن القائد له قيمة كبيرة يجب المحافظة عليها ، ثم حتي لو افترضنا جدلا أنه ركب إحدي الطائرات في الطلعة الأولي التي قادت قواتنا المسلحة لتحقيق انتصار غال ، فإن هذا واجبه الذي يجب ألا يمن به هو أو من يناصرونه الآن علي وطنه الذي أعطاه هذا الشرف ، فكلنا جنود في هذا الوطن وله . ثانيا : أما مقولة أنه حافظ طيلة الثلاثين عاما علي دماء المصريين من الدخول في حرب لا يدرك إلا الله منتهاها ، فإن هذا هراء ، ولا يصدر إلا ممن لا يعطون عقولهم الفرصة للتفكير ، لأن مبارك لم يكن له أي فضل في حقن دماء المصريين ، لأن الذي حقن دماء المصريين – وإن كنا نتحفظ علي ذلك - هي اتفاقية السلام التي عقدها مع العدو الصهيوني الراحل أنور السادات ، حتي أنه كان يسمي برجل الحرب والسلام ، وهو السلام الذي أذل المصريين للأسف الشديد ، ولعل ذلك يبدو واضحا لكل ذي عينين وكل صاحب لب رشيد وواع ، حيث إن هذا السلام كبل قواتنا المسلحة وقيدها فلم تكن قادرة علي الرد علي قيام العدو – علي مدار الثلاثين عاما الماضية ، وهي حكم مبارك – بقتل ما يزيد علي المائة والثلاثين من أبناء القوات المسلحة المصريين علي حدودنا الشرقية مع فلسطينالمحتلة . وكانت النقطة الحاسمة في الحوار - الذي امتد بين شد وجذب - أنني طرحت سؤالين : أولهما : بأي ذنب قتلت وزهقت أرواح الذين استشهدوا في أحداث الثورة ؟ ألمجرد أنهم خرجوا من بيوتهم إلي الشوارع والميادين ليعبروا عما تجيش به صدورهم من كبت وإحساس بالمذلة والعبودية طيلة ثلاثين عاما سرقت من أعمارهم كما سرقت منهم أموالهم لتملأ خزائن الفرعون وأسرته وحاشيته ؟ ثانيهما : لو أن ابننا – حفظه الله – كان قد أصابه ما أصاب الشهداء هل كنت ستطلبين الرحمة لهذا الرجل الذي تلطخت يداه بدماء الشهداء الأطهار ؟ وهنا سكتت زوجتي ولم تستطع أن تجيب ، لأنها بالفعل بدأت تشعر – ولو من بعيد – بما تشعر به الأمهات والآباء والأزواج الثكالي ، والأطفال الذين فقدوا آباءهم في ساحة التحرير . علينا أن نشعر بمعاناة أم وأبناء وزوجة وأب كل شهيد راح ضحية الوقوف أمام حاكم جائر ليقول له كلمة تحشرجت كثيرا من الزمن في حلوق أبناء هذا الوطن ، وآن لها أن تولد وتنطلق . [email protected]