بقدر ما يهتم المحللون بكشف أسباب هذا الارتفاع غير المتوقع بشعبية الحزب الحاكم في تركيا بالانتخابات البرلمانية المبكرة، بقدر ما يكتشفون أن الأمر مرتبط بأحزاب المعارضة التي خذلت ناخبها الذي أعطاها الفرصة في يونيو الماضي لكنها أضاعتها. فتيار الحركة القومية مارس طفولة سياسية برفضه تشكيل حكومة مع العدالة والتنمية أو مع المعارضة، ورفض كل السيناريوهات المطروحة بعناد أغضب ناخبه الذي عاقبه بحرمانه من ربع اصواته. وأيضا عاقب الناخب التركي اليساري حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد بسبب موقفه الرمادي من حزب العمال الكردستاني -المصنف إرهابيا- ودعوته للحكم الذاتي في جنوبتركيا، فتركه لأصوات بني جلدته الاكراد فقط. فيما حافظ حزب الشعب الجمهوري علي شعبيته بسب أدائه الجيد. بالمقابل، فإن ناخب العدالة والتنمية الذي عاقب حزبه في يونيو الماضي بدا خائفا من اندثار الحزب أو تمزقه في حال تراجعت أصواته أكثر هذه المرة، فتتحول تركيا الي جنة أحزاب صغيرة يصعب التوفيق بينها، فاندفع كثيرهم للتصويت للحزب، وفي بال كل واحد منهم استطلاعات الرأي التي تشير إلي أن شعبية الحزب مازالت عند 42% ولسان حال كل ناخب منهم يقول 'لو تخليت عن حزبي مرة ثانية فقد ينهار، علي بعضنا أن يدعمه حتي يبقي قائما علي قدميه'. إذا، وبحسب مراقبين، فإن خيبة الأمل من أحزاب المعارضة والخوف من انقسام أو انهيار حزب العدالة والتنمية هما العاملان الرئيسان اللذان أنتجا هذه النتيجة المفاجأة، بالإضافة طبعا إلي الظروف الأمنية والسياسية التي سعي لها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مهددا الناخب باستمرار القتال مع الأكراد والأزمة الاقتصادية إن هو لم يصوت له، فذهب الناخب الي صندوق الاقتراع تحت تهديد نفسي، وخوف من المجهول، فكان إنقاذ 'العدالة والتنمية من الهاوية' أسهل السيناريوهات عليه. وبالرغم من ذلك، فوت حزب العدالة والتنمية علي نفسه فرصة نادرة بفوزه الساحق في الانتخابات وعودته للانفراد بالحكم من جديد. وتتمثل الفرصة في تحميل حزب سياسي آخر الثمن السياسي للتنازلات التي سيضطر لتقديمها من أجل إصلاح ما اضطر أيضا لإفساده خلال الأشهر الخمسة الماضية للضغط علي الناخب التركي ودفعه للعودة للتصويت له من جديد. إذ لم يعد سرا أن رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو كان علي استعداد لعقد صفقة مع حزب الشعب الجمهوري لتشكيل حكومة ائتلافية لو أنه لم يحصل علي الأغلبية في هذه الانتخابات، وفق تفاهم علي رفع ملفات فساد حكومة أردوغان علي الرف، مقابل إعطاء الحكومة هامشا أكبر من الحرية في التصرف في السياسة الداخلية والخارجية. وهكذا حكومة كانت ستجعل لأول مرة حزبا معارضا شريكا لسياسات حزب العدالة والتنمية في مختلف الملفات، فسيتحمل معه مواجهة حزب العمال الكردستاني وسيشاركه مسؤولية العودة الي طاولة المفاوضات من جديد، وسيتحمل معه الأخطار الأمنية التي يشكلها تنظيم 'داعش' علي تركيا وطريقة مواجهتها. وسيتحمل معه أيضا أعباء الازمة الاقتصادية الحالية، كما سيتمكن من إجراء تعديلات علي بعض سياساته الخارجية بحجة وجود شريك تكون وزارة الخارجية من نصيبه. أما الآن، فإن علي داود أوغلو أن يواجه كل هذه التحديات منفردا، وسيكون أمام تحد صعب لتبرير تغيير خطه السياسي خصوصا أمام حزب العمال الكردستاني الذي وعد الناخبين بعدم التفاوض معه مرة ثانية، إلا بعد إلقائه السلاح، وهو يعلم أن هذا الشرط مستحيل التحقيق. وسيبقي داعش تهمة وخطرا يلاحق حكومة داود أوغلو، وسيضطر للتعامل مع رغبات أردوغان الخاصة بالانتقام من جماعة غولن ولو بالالتفاف علي القانون، وإسكات أفواه المعارضين له، ولو كلف ذلك مزيدا من الجفاء مع الغرب.