أثار الاتفاق النووي بين إيران والقوي الكبري الذي أبرم في فيينا الأسبوع الماضي بعد أكثر من عشر سنوات من المفاوضات المتقطعة و18 يوما من المفاوضات الماراثونية غضبا عارما في إسرائيل وانتقادات واسعة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كما أعاد للواجهة الحديث حول تشكيل حكومة وحدة وطنية وسط ترقب للتعويضات الأمريكية. ولأول مرة منذ انتخابات الكنيست في مارس الماضي، اتحدت مواقف الحكومة والمعارضة في إسرائيل حيال الاتفاق الذي وصفه نتنياهو ومختلف القيادات السياسية الإسرائيلية بأنه 'سييء' و'خطأ تاريخي' و'يوم أسود للبشرية'.. معتبرين أنه يمهد الطريق أمام طهران لإنتاج قنبلة نووية وسيرسل المليارات إلي خزائنها لاستخدامها في الدفع بأجندتها العنيفة في المنطقة. وردا علي الاتفاق الذي اعتبر 'هزيمة إستراتيجية' لنتنياهو، لم تفوت إسرائيل الفرصة ولجأت إلي 'الابتزاز' لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية والحصول علي حزمة من التعويضات الأمريكية في المجال العسكري تضمن استمرار تفوقها العسكري علي جميع دول الشرق الأوسط. وتوصلت إيران ومجموعة 5+1 'الولاياتالمتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين' في الرابع عشر من يوليو الجاري إلي اتفاق تاريخي حول الملف النووي الايراني سيتم بمقتضاه رفع العقوبات الدولية التي تخنق الاقتصاد الإيراني تدريجيا ورفع التجميد عن عشرات مليارات الدولارات من عائدات النفط والأصول المجمدة مقابل موافقتها علي كبح برنامجها النووي الذي يشتبه الغرب وإسرائيل في أنه يهدف إلي تصنيع قنبلة نووية. ويعطي الاتفاق الحق لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة بمراقبة وتفتيش بعض المواقع العسكرية الإيرانية وفرض حظر علي توريد الأسلحة لإيران لمدة خمس سنوات، كما يسمح لإيران بمواصلة عمليات التخصيب بكميات محدودة واستخدام أجهزة الطرد المركزي لأغراض البحث العلمي. وأعرب نتنياهو في أكثر من تصريح صحفي عقب توقيع الاتفاق النووي عن خيبة أمل إسرائيل واصفا إياه بأنه 'خطأ صادم.. تاريخي'. وأكد أن 'إسرائيل ليست ملزمة بهذا الاتفاق لأن إيران مستمرة في السعي لتدميرنا، وسندافع عن أنفسنا علي الدوام'. وقال نتنياهو خلال اجتماعه في القدس الخميس الماضي مع وزير الخارجية البريطاني فيليب هموند الذي كان يزور إسرائيل في مسعي لتهدئة مخاوفها من الاتفاق مع إيران، إن البديل للاتفاق ليس الحرب وإنما إبرام اتفاق أفضل يضمن عدم حصول إيران علي أسلحة نووية ويطالبها بتغيير نهجها. وأشار إلي 'أن اتفاق فيينا سيسمح لإيران بتلقي مئات المليارات من الدولارات ستستخدمها لدعم الإرهاب في أنحاء العالم'. وأردف :'لا يعقل أن تقدم الدول الكبري تسهيلات لإيران في الوقت الذي تسعي فيه لمحو إسرائيل عن الخارطة'. كما انتقد نتانياهو آلية الاتفاق التي تسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالدخول إلي المواقع النووية المشتبه بها في إيران خلال 24 يوما، قائلا :'هل يعقل أن تعطي تاجر مخدرات مهلة 24 يوما، قبل أن تقوم بمداهمة مخبأه'. وتعد إسرائيل القوة النووية الوحيدة غير المعلنة في منطقة الشرق الأوسط وترفض الانضمام إلي معاهدة حظر الانتشار النووي. وبحسب الإعلام الإسرائيلي، سيركز نتنياهو في الفترة المقبلة جهوده من أجل الضغط علي الكونجرس الأمريكي لرفض الاتفاق وحشد عدد كاف من النواب الديمقراطيين والجمهوريين لمنع رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن إيران. غير أن محللين إسرائيليين يتوقعون فشل هذه المساعي لأنها تفترض الحصول علي تأييد 13 سناتورا من الحزب الديمقراطي علي الأقل للتصويت ضد قرار الرئيس باراك أوباما. منبهين إلي أن سياسة حمل الكونجرس علي عرقلة الاتفاق قد تؤثر سلبا علي 'التعويضات العسكرية' التي يمكن أن يمنحها أوباما لإسرائيل. وأشاروا إلي أن نتنياهو يعلم جيدا بأنه حتي لو قرر الكونجرس الأمريكي الابقاء علي العقوبات المفروضة علي طهران، فإن القرار لن يؤثر علي القوي الكبري الأخري ولا علي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقالوا إن إسرائيل ترغب بالحصول علي 'مظلة أمنية أمريكية' يمكن أن تتخذ شكل اتفاق ينص علي أن أي هجوم تشنه إيران ضدها سيتم اعتباره بمثابة هجوم علي الولاياتالمتحدة. وذكرت الصحف الإسرائيلية أن هيئة الأركان الإسرائيلية قد تسعي للحصول علي زيادة المساعدات العسكرية الأمريكية والتي تبلغ قيمتها حاليا 3 مليارات دولار سنويا، وقد تحصل إسرائيل أيضا علي مقاتلات 'إف 35' إضافية طلبت 33 مقاتلة منها بالفعل، وطائرات الشبح التي لا تكشفها أجهزة الرصد. وأشارت نقلا عن مسئولين إسرائيليين أن الفترة المقبلة سوف تشهد المزيد من التعاون بين جهاز 'الموساد' الإسرائيلي وبين وكالتي الاستخبارات المركزية 'سي أي ايه' والأمن القومي الأمريكيتين بهدف التكيف مع القواعد الجديدة للعبة التي يفرضها الاتفاق والتركيز علي مهمة رئيسية وهي التأكد من أن إيران لا تعمل في السر علي خرق التزاماتها. وكان وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر قد وصل مساء الأحد إلي إسرائيل في إطار جولة في الشرق الاوسط في محاولة لطمأنتها بشأن الاتفاق النووي مع إيران. والتقي كارتر مع نتنياهو ووزير دفاعه موشيه يعالون، حيث أكد علي أن واشنطن ستساعد 'حليفتها المهمة' في منطقة الشرق الأوسط علي الحفاظ علي التفوق العسكري النوعي علي باقي دول المنطقة. ورغم التطمينات الأمريكية والتعويضات المتوقعة، يري البعض في إسرائيل أن التعويضات الأمريكية يجب أن يكون علي المستوي الجغرافي الاستراتيجي وليس فقط علي المستوي العسكري فقط وأن الأوضاع الدولية الراهنة، وعلي رأسها الحرب في سوريا والاتفاق النووي الإيراني فرصة للدولة العبرية لتوطد بشكل نهائي سيطرتها علي هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967. ويقود هذا التوجه سكرتير الحكومة سابقا تسفي هاوزر الذي يري أن الحرب السورية تشير إلي موت فكرة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان مقابل السلام مع سوريا. وقال هاوزر في مقال كتبه بصحيفة 'هاآرتس' إن الوضع الراهن يمثل 'الفرصة الحقيقية الأولي منذ ما يقارب النصف قرن لإجراء حوار بناء مع المجتمع الدولي لتغيير الحدود في الشرق الأوسط والاعتراف بالسيطرة الإسرائيلية علي هضبة الجولان، كجزء من المصلحة العالمية في استقرار المنطقة'. وأضاف :'سوريا كانت ولن تكون مجددا، لقد انتهت صلاحية الاتفاقات التي عرفت الحدود والدول في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولي، وستمر المنطقة علي الأرجح بسنوات طويلة من عدم الاستقرار، في مثل هذا الواقع يجب علي إسرائيل أن تعيد صياغة مصالحها الجيو-استراتيجية - وليس فقط في الجبهة السورية - من خلال النظر بعيدا إلي الغد، وليس عميقا إلي الأمس'. وتتفق الحكومة والمعارضة في إسرائيل علي رفض الاتفاق النووي مع إيران، رغم دعوة أحزاب معارضة إلي تشكيل لجنة تحقيق برلمانية للنظر في سياسة حكومة نتنياهو حيال التوقيع علي الاتفاق واتهامها بالفشل في الحيلولة دون ذلك. وعقب توقيع الاتفاق النووي، قام الرئيس الإسرائيلي رؤوبين ريفلين بوساطة بين نتنياهو الذي يتزعم حزب 'الليكود' اليميني الحاكم وبين زعيم المعارضة وحزب العمل ورئيس تحالف 'المعسكر الصهيوني' الوسطي إسحاق هرتسوغ لتشكيل حكومة وحدة وطنية. ونقلت صحيفة 'هاآرتس' عن مصادر لم تسمها في حزبي 'الليكود' و'المعسكر الصهيوني' أن الحزبين بدآ في الأسابيع الأخيرة اتصالات لاستكشاف تشكيل حكومة وحدة وطنية. وقالت:'يساعد الرئيس ريفلين الطرفين من خلال نقل الرسائل الشفهية بينهما '.. ' حتي الآن لم يتم تبادل مقترحات مكتوبة بين الطرفين'. وتحظي حكومة نتنياهو الهشة بدعم 61 عضوا من أصل 120 عضوا في الكنيست، وتضم إضافة إلي الليكود أحزاب اليمين 'البيت اليهودي' و'شاس' و'كلنا' و'يهودوت هتوراه'. وقال هرتسوغ أمام الكنيست إنه علي الرغم من الخلاف مع نتنياهو حول مسألة النووي الإيراني، إلا أن معسكره سيقف خلفه كرجل واحد.معتبرا أن الاتفاق هو 'تحدِ مشترك لنا جميعا'. ورغم أن هرتسوغ استبعد الانضمام للائتلاف الحكومي، فإن زعيمة حزب 'ميرتس' اليساري المعارض زهافا غلؤون، توقعت أن ينضم حزبه قريبا للحكومة. وقالت غالؤون لإذاعة الجيش الإسرائيلي:'المعسكر الصهيوني سينضم قريبا إلي الائتلاف الحكومي.. سيستخدم هرتسوغ الاتفاق الدولي مع إيران كغطاء للانضمام'. وأشارت إلي أنها ستطرح علي الكنيست اقتراحا بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية للنظر في سياسة الحكومة في موضوع البرنامج النووي الايراني والعلاقات الإسرائيلية الامريكية. واعتبر تحليل نشره مركز 'أطلس للدراسات الإسرائيلية' - مقره غزة - أن إستراتيجية إسرائيل من الدولة الإيرانية وليس من ملفها النووي هي أساس الموقف الإسرائيلي، فبالنسبة لإسرائيل فإن عدم الاتفاق هو أفضل من أي اتفاق، حتي لو كان مجحفا جدا بحق الإيرانيين وانطوي علي تفكيك كل البرنامج والمنشآت النووية الإيرانية وحرمان إيران من تكنولوجيا الطاقة النووية للأغراض السلمية. وأوضح أن موقف تل أبيب من النووي الإيراني مرتبط بالموقف من طبيعة النظام الإيراني، حيث إن المشروع النووي الإيراني للأغراض السلمية بدأ العمل عليه منذ 1967 في عصر الشاه رضا بهلوي، وقد وافقت الشركات الأمريكية في منتصف السبعينات من القرن الماضي علي بناء مفاعلين نوويين، لكن العطاء رسي علي شركة 'سيمنز' الألمانية نظرا لانخفاض التكلفة الألمانية، وقد تم البدء فعليا ببناء المفاعل الأول سنة 1974، وعندما اندلعت الثورة الإيرانية سنة 1979 كان قد تم إنجاز ما يقارب 85% من بناء المفاعل، وتوقف البناء مع رحيل الشاه، ولم تعترض إسرائيل علي البرنامج النووي الإيراني آنذاك. وبحسب مركز 'اطلس' فإن الدول العظمي التي تنفست الصعداء في أعقاب توقيع الاتفاق لا تحفل بالصراخ والتنديد الإسرائيلي لأنها تعرف جيدا أن الموقف الإسرائيلي مرتبط بدوافع سياسية وهواجس أمنية مفتعلة، ولا يصلح معيارا للحكم علي طبيعة الاتفاق. وتوقع أن إسرائيل 'لن تسلم بنهاية اللعبة ولن تستسلم أمام الاتفاق وستستمر في 'دور الكلب النباح' علي أمل أن تنجح في وضع العقبات والصعاب أمام تطبيق الاتفاق أو الإبقاء علي إيران كدولة منبوذة دوليا باعتبارها راعية للتطرف والإرهاب' حسب الرؤية الإسرائيلية. علي وحد وصف المركز. ورجح المركز أن تعتمد حكومة نتنياهو علي استراتيجية تقوم علي عدة ركائز في محاولة منها لإفشال الاتفاق أو محاصرة أضراره عليها، ومنها العمل مع الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب علي رفض المصادقة علي الاتفاق، وسن المزيد من العقوبات علي إيران، وربط رفع العقوبات بقضايا غير مرتبطة بالبرنامج النووي. وتتضمن تلك الركائز أيضا تعظيم العمل الاستخباراتي للحصول علي معلومات عن أي خرق ممكن للاتفاق ونشر تقارير عن خروقات إيرانية للاتفاق، وكذا التشكيك بفعالية نظام الرقابة، والعمل علي ربط إيران بالإرهاب و'داعش' وبزعزعة الشرق الأوسط، والعمل أيضا علي ربط بعض العقوبات - لا سيما المالية منها - بتغيير سياسات إيران الخارجية ودعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية بذريعة أن الأموال التي سيفرج عنها ستوظف في دعم المزيد من 'الأنشطة الإرهابية' حسبما تزعم إسرائيل. كما تشمل ابتزاز البيت الأبيض في إطار المطالبة بتعويض أمريكي لإسرائيل عن تعريض مصالحها الأمنية للخطر، وذلك بتوقيع المزيد من صفقات الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، فضلا عن المزيد من التعاون في برامج تطوير الصناعات الحربية وأبحاث الدفاع الجوي، بالإضافة إلي محاولة بناء تحالف مع بعض الدول الخليجية بذريعة المخاوف من إيران النووية.