فلو كان ذلك 'المبدع المزعوم' شخصًا محترمًا، سليم النية، لعبر عن رؤيته -مثلًا- بنحت تمثال 'شامبليون' وهو واضع قدمه فوق حجر رشيد نفسه، مما يُعَد أمرًا منطقيًا له حجته الموضوعية.. أو حتي علي جزء من إحدي المسلات، أو أعمدة المعابد الفرعونية، أو شيء آخر من هذا القبيل.. ولكنه تعمد أن يصور الحذاء ونعله يبصم علي جبهة -رأس- ملكية- مصرية- مكسورة: فالجبهة ترمز للعزة والإباء، وهي أعلي قسم في الرأس، والرأس هو أعلي منطقة في الجسد، أما مصر فتقع في أعلي الشمال الشرقي لأفريقيا، وهي الأعرق، والأكبر بين بلدان القارة، والأكرم عند رب العالمين، وأما الملك فهو أعلي مرتبة في الدولة. ولأن ذلك 'النحات الوضيع' أراد أن يخسف بكل ذلك وفي مقدمته كبرياء مصر وشموخها واعتزازها بمكانتها عند الله وخلقه أيضًا إلي أسفل سافلين، إذ كان عقله الباطن ينضح أطنانًا من الغل والحنق، جعلته يُقدِمُ في وقاحة وتبجح علي كسر كل تلك المعاني والرموز المؤرقة لأحلامه المريضة، ثم دحرجها تحت حذاءٍ، صادف أنه لشامبليون، حيث أتصور أنه صنع ذلك الرأس وذاك الحذاء، علي هذا النحو أولاً، ثم اكتملت الفكرة فيما بعد ليقع اختياره علي شامبليون، والذي أكاد أجزم: أنه لو كان علي قيد الحياة وقت قيام 'المجرم الحقير' بفعلته الشنعاء، لاعترض، وتصدي له لمنعه من مجرد الشروع في غيه الماجن، ولكن شامبليون الذي توصل إلي فك رموز اللغة الهيروغليفية من خلال 'لوحة رشيد' عام 1822 وهو لايزال في الثانية والثلاثين من عمره، رحل عن عالمنا عام 1832 دون أن يبلغ اثنين وأربعين سنة، أي قبل دق الإزميل الأول في التمثال عام 1867 بخمسة وثلاثين عامًا. وأكرر مجددًا: إنني لست الأسبق في فتح ملف التمثال، ولكنني الأكثر إصرارًا علي تحقيق نصر حاسم، وجلي لكرامتنا نحن المصريين، وتصحيح وضع مقلوب ظل هكذا لمائة وأربعين عامًا، ولن يتأتي ذلك إلا بقيام أولي الأمر في فرنسا بنفي هذا التمثال إلي مخزن مغلق، بعيدًا عن الأعين، ولا أقول تحطيمه، ولو أن هذا هو رد الفعل الأنسب والأجدر بإقراره من قبلهم، بل أقل واجب عليهم لإصلاح ما أفسده مُواطنُهم. أردد هذا وكلي يقين أن الشعب والمسئولين الفرنسيين لو خُيِّرُوا بين ذلك المطلب العادل- العاجل، واحتدام غضب المصريين، والذي أتصور أنه قد ينفجر ليصل بهم في لحظة ما إلي الاستغناء عن البعثات الفرنسية المشارِكة في أعمال التنقيب عن الآثار المصرية وترميمها- وهو أيضًا أحد السيناريوهات العملية المُعتَبَرَة، التي طرحها عالم المصريات الكبير 'د.عبد الحليم نور الدين' في أحد نقاشاتي معه-حينئذٍ، وبلا تردد سوف يفضل الفرنسيون البقاء تحت الأرض بين جدران المعابد ووسط مقابر ملوك الفراعنة ومومياواتهم علي العناد، والمكابرة في شأن لا يختلف فيه اثنان علي أنهم المخطئون، أو علي الأقل متهاونون في حق تراث كم غَنُّوا وَرَقَصُوا له، وشربوا في نخبه.. وقتئذٍ سينحازون لمصالحهم في مصر، وهم يهمهمون: فليذهب 'بارتولدي' وماسونيته، وجميع أعماله- بما فيها تمثال الحرية- إلي الجحيم. ومع هذا لا تزال تناوشني بقايا من ثقة، أن الموضوع سيأخذ مسلكًا أكثرهدوءًا ونعومةً وبساطة مما نتوقع، خاصةً بعدما أورد د.'مصطفي الفقي' يوم الإثنين الماضي - 24 نوفمبر- في مقاله الأخير بصحيفة 'الأخبار' تحت عنوان: قدم شامبليون فوق رأس إخناتون- مع تحفظي علي بعض ما جاء به من نقاط تفتقر إلي الدقة- حيث كتب د.الفقي ناقلًا عن وكيل وزارة الثقافة د.'إيمان نجم': 'أن إدارة 'الكولاج دو فرانس' لا تمانع في رفع التمثال من فنائها بالسوربون، ولكنها أبدًا لم تتسلم من مصر طلبًا رسميًا في هذا الصدد'، وهي بالطبع معلومة مدهشة تدعونا للتفاؤل، حال انتفاض وجهاء مصر المعنيين بمهام مناصبهم الموكولة إليهم، بقدر ما تدعونا أيضًا للتساؤل عن سبب تقاعس هؤلاء وأولئك، من ورثة الكراسي اللاصقة، والمتعاقبين عليها طوال قرن ونصف من الزمان، أو حتي منذ أصبح أمرنا بيدنا، بعد استقلالنا في 1952، وهو أضعف الإيمان!! ورب ضارة نافعة، فرغم احتجاجي وثورتي علي التمثال وصانعه ودوافعه، فإن رغبتي في إدراك الجذور واستنباط علاقتها بالزوائد، والأهداب، حرضتني عليالغوص في أعماق الحكاية، فجرفني فضولي إلي سراديب ملتوية ومظلمة.. طويلة وكثيرة ومتشعبة.. وكلها تنطلق من كهف موحش وحيد، لتعود إلي حيث بدأت داخل نفس الكهف، فتنطلق من جديد، وهَلُمَّ جَّرا.. في رحلة مريرة، يبدو أنها لن تتوقف إلا عند أقدام الديان العادل يوم الحق المبين. ولنستكمل في العدد القادم بمشيئة الله. [email protected]