لا زلنا بصدد تمثال شامبليون الجاثم بحذائه علي رأس الفرعون المصري.. هذا العمل 'الوقح'الذي شرع بارتولدي في تصميم نموذجه المبدئي عام 1867 نكاية في الخديوي اسماعيل، بعدما أجل البت في شراء 'تمثال الحرية' منه لوضعه عند مدخل قناة السويس، والذي تخيله بارتولدي وقتها علي شكل سيدة ترتدي ملابس فلاحة مصرية ترفع يدها حاملة شعلة يخرج منها ضوء لإرشاد السفن العابرةللقناة.. وعقب اعتذار الخديوي اسماعيل النهائي في 1869 عن شراء تمثال الحرية بالنسخة المصرية لضيق ذات اليد، مضي بارتولدي في نحت تمثال شامبليون'المشين' حتي انتهي منه عام 1875 ليوضع في مكانه بجامعة السوربون، بينما قامت بلادهفي أكتوبر من عام 1886بإهداء تمثاله الذي عُرِفَ فيما بعد بتمثال الحرية إلي أمريكاكعربون محبة، رغم أن مصر هي الأولي برد الهدية، وشعبها صاحب الفضل والجميل هو الأجدر بالمحبة بعد أن ضحي بما يزيد عن 120 ألف من أبنائه خلال عشر سنوات هي مدة حفر قناة السويس، التي منح الخديوي سعيد حق امتيازها لفرنسا مع احتكار استثمارها لمدة 99 عاماً، حسب طلب صديقة الخبيث فريديناند ديليسيبس. لم يرَ بارتولدي، ولا الغرب الأعمي، ان ذلك الفرعون هو من صنع مجد شامبليون وليس العكس، وإن كان لابد لأحدهما أن يضع حذاءه فوق رأس الآخر فليكن هو الفرعون المصري.. والأخطر أنهم ينظرونإلي المصريين علي أنهم أحفاداً لا يشبهون أجدادهم، وأنهم غير مستحقين للحضارة العريقة التي ورثوها عنهم، بل أن الغرب كله راح يستكثر مصر بثرواتها الفريدة علي أبنائها، ولم يفطن يوماً إلي أن أثمن كنوز مصر تكمن في المصريين أنفسهم. تساءلت مراراً في نفسي قبل أن أطرح نفس السؤال علي الملأ:ماذا سيكون الحال لو دُعيَت شخصية مصرية لاحتفالية رسمية أقيمت بجامعة السوربون في حضورجان فرانسوا شامبليون الباصم بنعل حذائه علي رأس الفرعون؟! رأيت العجب العجاب عندما قابلت أو هاتفت بعض الفنانين المعروفين، وعدد ممن اصطلح علي تسميتهم بالمثقفين، للوقوف علي رأيهم في التمثال.. وجوه مللناها لأناس مزعوا طبول آذاننا بنشاز حناجرهم في حب مصر، وجرفتنا سيول دموعهم حتي صدقناهم وهم ينوحون علي عزتنا الضائعة وكرامتنا المهتوكة، وعند قضية التمثال رفضوا التعليق بحجة أنهملا يفضلون الحديث في السياسة.. والبعض رفض التعقيب بحجة أنه لم ير التمثال، حتي بعد أن أطلعتهم بنفسي علي صور وفيديوهات لا لبس فيها، وكانوا علي وشك طلب تذاكر طيران مجانية إلي باريس، مع إقامة كاملة وبدل سفر للتحقق بأنفسهم عن طريق معاينتهملشامبليون متلبساً بذات الفعل.. كان رأي عدد من 'عواجيز' المثقفين أن ذلك التمثال هو شئ سخيف وليس يصح أن يكون موجوداً من أصله، ولكن بما انه أمراً واقعاً فعلينا ألا ننظر إلي الماضي ولنعمل كي لا يتكرر مثله في المستقبل!! أولئك 'المسنون' يتحدثونعن المستقبل الذي لن يكونوا فيه علي قيد الحياة وبواطن عقولهم الشاردة تهمس لهم: فلندع الحاضر يمر بسلام بلا نزاعٍ أو خصام.. فماذا سنجني من وراء الصدام، ونحن في منتهي الأيام. البعض أيضاً يري التمثال من زاوية حرية الإبداعكونه شطحات خيال لفنان لا يمكن محاسبته عليها. وهناك من تفذلك محاولاً تبسيط الفضيحة، وتتفيه دوافعها، لتبريد دم الغاضبين، فأخذيفسرأن الحذاء عند الفرنسيين ليس دليلاً علي الإهانة والازدراء، أو كما كتب الراحل أنيس منصور : إن شامبليون هنا يمثل المعني الفرنسي للجزمة، وفرعون يمثل المعني المصري للجزمة!! وأسأل كل منهؤلاء: ماذا لو شاهدت أنت صورة لرجل يضع حذاءه علي رأس أبوك؟! أو لو شاهد إبنك صورة شخص يدوس بحذائه علي رأسك أنت؟! والآن الكثير يتعجبون.. مائة وأربعون عاماً هي عمر وجود شامبليون في نفس مكانه فلماذا السكوت؟! والأغرب لماذا انتفضنا الآن؟! سنحاول الإجابة علي هذا السؤال في العدد القادم بمشيئة الله.