قبل شهور أرسل لي أحد الأصدقاء علي 'الفيس بوك'.. دعوة لمتابعة صفحة المتحدث العسكري الصهيوني، ويُدعَي 'أفيخاي أدرعي'.. اتصلت بصديقي علي الهاتف، وقلت له: يبدو أنك أرسلت لي هذه الدعوة عن طريق الخطأ.. فقاطعني: لا.. أريدك أن تتابع ماذا يقول، من منطلق 'اعرف عدوك'، وتري كيف يوبخه المدونون المصريون، ولا يفوتون فرصة إلا ويكشفون أكاذيبه.. وبعد مناقشة لم يقتنع فيها الصديق بكلامي، معتبرًا أن المسألة وجهة نظر.. وجهت رسالة لكل الأصدقاء علي 'الفيس بوك' قلت فيها: 'الإخوة اﻷعزاء.. جاءتني دعوة للإعجاب بصفحة المتحدث باسم جيش الاحتلال اﻹسرائيلي!! ووجدت بعض اﻹعجابات من بعض اﻷصدقاء بها.. فرجاء الانتباه ﻷن في ذلك تطبيعًا مع أعدائنا.. إلي كل صديق عمل إعجاب برجاء إلغائه دون الحديث مع ذلك الشخص أو الدخول معه في حوار أو مناقشة، ولو حتي بالشتيمة'. ومنذ أيام تابعت المعركة الدائرة بين هذا المتحدث وبين مجموعة من الشباب، حول نصر أكتوبر العظيم.. فالصهيوني يستفز متابعيه علي 'الفيس بوك' قائلا: 'إن إسرائيل انتصرت في الحرب'، والشباب يردون عليه.. البعض بالمناقشة، والغالبية بالتوبيخ وتوجيه الشتائم. المثير أن كثيرين، يعتبرون ما يقومون به انتصارًا، وغزوًا، وكشفًا للحقيقة، ودفاعًا عن الثوابت الوطنية، حتي إن بعض الصحف تناولت المعركة الإلكترونية، بوصفها نصرًا، دون أن يدرك هؤلاء وهؤلاء، أن الفائز الحقيقي هو من استفزهم، بطريقة أو بأخري، وجرَّهم إلي مستنقع التطبيع!!. البعض يعتبر في ذلك مبالغة أو تزيّدًا، لكن علي هؤلاء أن يفكروا قليلا: هذا المتحدث.. عسكري في جيش الاحتلال، أو جزء من منظومة أمنية وعسكرية صهيونية.. تحدد أهدافها بعناية، ويجب ألا نتوهم أنه دشَّن صفحة ويتواصل مع الشباب العربي من تلقاء نفسه، أو أنه يملأ صفحته بالأدعية الدينية والآيات القرآنية في رمضان والعيدين أحيانًا، والتعليقات علي مباريات كرة القدم أحيانا أخري، من باب التسلية.. فما يقوم به مدروس بعناية لاستقطاب الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي والحديث معهم، وجرِّهم للتطبيع، وقد نجح في ذلك للأسف، حتي إن تسجيلات الإعجاب علي صفحته وصلت إلي 579 ألفًا.. ولو كان فشل في أداء مهمته لتم تغييره فورًا، أو إلغاء الصفحة من الأساس. المتحدث باسم جيش الكيان الصهيوني، في سبيل اجتذاب أكبر عدد من المتابعين، يستند إلي عدة محاور.. أولا: يقوم بتقديم المعلومات والتفاصيل بدقة شديدة تجعل منه مصدرًا 'موثوقًا' لتلقي الأخبار، وظهر ذلك واضحًا فيما كان يقدمه من أخبار حول العدوان الأخير علي غزة. ثانيا: استفزاز المتابعين بذكر آراء مغلوطة، كأن يتحدث باستخفاف عن انتصار مصر في أكتوبر، كما فعل مؤخرًا وكتب أن الصهاينة انتصروا في الحرب، فيتباري البعض في الرد عليه ليصبح الدخول علي صفحته والحديث معه ومتابعته أمرًا طبيعيًا. وبين هذا وذاك يتسلل إلي العقول ببعض الحديث، عن علاقته بزوجته وكيف اشتري لها هدية قيّمة في عيد ميلادها، ولا مانع فيما بعد أن يذكر خلافًا بينه وبين زوجته ويطلب مشورة المتابعين!!.. كما يتعمد الحديث الناعم عن أصدقائه، وهواياته، وكيف يقضي إجازاته، والموسيقي التي يستمع إليها، والمطربين العرب الذين يحب أن يسمعهم، والأفلام التي يحرص علي مشاهدتها، وهكذا.. ليخلق علاقة مع متابعيه. وبتحليل مضمون صفحة 'أفيخاي أدرعي'، تجد أنه يحاول أن يخلق صورة ذهنية مثالية عن إسرائيل، وحالة تعاطف مع الدولة المزعومة التي يكرهها كل من حولها ويحرِّضون عليها ويتمنون زوالها، بينما هي دولة ديمقراطية متقدمة، يدافع جيشها عن وجودها!!. هذا الكلام وإن كان مردودًا عليه ومرفوضًا الآن، لكن علينا أن ننظر للأمر بعد عشر سنوات، وربما أقل من ذلك، فسوف نجد البعض دون أن يدري وبفعل الإلحاح الممنهج، والمدروس، يشعر بالتعاطف مع 'إسرائيل'.. بالضبط كما حدث عندما روَّج المطبعون أمثال علي سالم وغيره، أكذوبة 'جماعات السلام' و'ثقافة السلام' و'التعايش السلمي' و'الشرق الأوسط الجديد' و'المستقبل الأفضل' و'قبول الآخر'.. وغيرها. الخطورة هنا أن ما كان يقدمه المطبعون للرأي العام المصري والعربي بعد لقاءاتهم بالصهاينة أو زياراتهم للكيان الصهيوني، يقدمه اليوم 'الإسرائيليون'، بأنفسهم من خلال المتحدث باسم جيش الاحتلال، أو من خلال التواصل المباشر دون الحاجة إلي وسيط.. بما يكسر الحاجز النفسي بينك وبين عدوك. قد يقول البعض إنهم يفهمون ما قلته، جيدًا عن الكيان الصهيوني، بل يعرفون أكثر من ذلك، وإنهم يتواصلون مع صفحة المتحدث باسم جيش الاحتلال، ليعبروا عن كرههم لإسرائيل وبغضهم لما تقوم به من جرائم، أو للسخرية منه.. لكن هؤلاء يتجاهلون أن هذا المتحدث محترف، مدرَّب بشكل جيد علي ما يقوم به، وهم غير مدربين، بمعني أدق: هناك وحدات صهيونية تتابع الإعلام الاجتماعي، وتستخدم أحدث الأساليب العلمية والنفسية في تحليل ما يُكتب والرد عليه، والاستفادة منه.. إذن احتمال نجاح هذا الصهيوني في مهمته أكبر، لأن ما يفعله مدروس ومخطط له.. ويكفيه نجاحًا أنه يفرِّغ طاقة الغضب عند المصريين والعرب في عبارات السب والسخرية. فأنت تذكر بعض ما درسته أو عرفته عن مذابح 'دير ياسين' و'كفر قاسم' و'مدرسة بحر البقر' و'أبوز عبل'، وتشاهد الجرائم التي يرتكبها جنود الاحتلال الصهيوني ضد أشقائنا في فلسطين، فيتكون لديك يومًا بعد الآخر رصيد كبير من الغضب، تفرغه يوميًا وبشكل مستمر، أمام جهاز الكمبيوتر، في عبارات لا تُقدِم، بل تُؤخِر. عزيزي المتواصل مع 'أفيخاي أدرعي'.. هل تعرف كم من اليهود هاجروا من إسرائيل بسبب عزلتهم؟.. وهل أنت سعيد بما توجهه له من شتائم؟.. ألا تشعر بالذنب وأنت تشتم شخصًا، فيبتسم لك أو يتغاضي عن قباحتك، ويتحدث معك عن هواياته والموسيقي التي يحب أن يسمعها؟!. وما يدريك أن ما تكتبه، أنت وغيرك، لا تتم ترجمته وتصديره للغرب؟!!، ليبدو الصهاينة مظلومين مضطهدين يواجهون عدوا يكرههم، أو يتم جمعه في كتاب لتدريسه للتلاميذ في المدارس الإسرائيلية؟ ولِمَ لا؟!.. فالصهاينة يعلِّمون أولادهم الجمع والطرح وقواعد الحساب في المدرسة عن طريق: لديك 5 من العرب قتلت 3 فكم يتبقي؟!.. هذه حقيقة وليست علي سبيل المبالغة. البعض يقول إنه يتواصل مع صفحة هذا المتحدث من باب: 'اعرف عدوك'!!.. وهؤلاء أسألهم: ألا توجد طريقة أخري تعرفون بها عدوكم بدون هذا التطبيع؟.. ارصدوا ما عرفتموه عن إسرائيل بعد متابعة هذه الصفحة، وما كنتم تعرفونه قبل ذلك، لتدركوا أن مسألة اعرف عدوك من خلال التطبيع أكذوبة كبيرة روجها الصهاينة أنفسهم لتمرير التطبيع وجعله مستساغًا. حقيقة حكاية اعرف عدوك التي رددها المطبعون الأوائل، تذكّرني.. بكثيرين أدمنوا الهيروين لأنهم حاولوا أن يعرفوا تأثيره، وهي أقرب لمن يرمي بنفسه تحت عجلات القطار ليعرف شعور المنتحر. يا سادة.. التطبيع مطلب صهيوني يلحون عليه، ولا يعدمون وسيلة لجعله أمرًا واقعًا، يطلبونه سرًا وعلانية، منذ مبادرة 'روجرز'، ومن بعدها معاهدة 'كامب ديفيد'.. أحيانًا يمررونه بالضغوط الأمريكية والدولية، كما حدث في 'الكويز' وغيرها.. وأحيانًا أخري عن طريق غسيل العقول الذي يمارسه الإعلام الغربي والعربي تحت دعوات 'التعايش السلمي' و'قبول الآخر'.. أو بطرق ملتوية، كما يفعل 'أفيخاي أدرعي'. الصهاينة لا يكتفون بالاعتراف الرسمي فقط، بل يطلبون تطبيعًا شعبيًا للعلاقات يسمح لهم بالاندماج في المنطقة.. ويطرحون ذلك في كل مفاوضاتهم، ومساوماتهم.. ويتصدر كل أجنداتهم لحل القضية العربية. فهم يشترطون التطبيع في مقابل منح الفلسطينيين بعض الحقوق التاريخية في 'الضفة وغزة'.. أو ما يسمونه: 'الأرض مقابل السلام'. فكيف يتصوَّر أو يعتقد البعض أن مواجهة الصهاينة تكون بتنفيذ مطالبهم وأهدافهم ومخططاتهم؟!!. لقد أدرك البعض علي مواقع التواصل الاجتماعي خطورة التواصل مع المتحدث باسم جيش الاحتلال الصهيوني، فأطلقوا عبر 'الفيس بوك' حملة تهدف إلي إلغاء الإعجاب بصفحته والتوقف نهائيًا عن التفاعل مع منشوراته أو الرد عليه حتي لو علي سبيل السخرية أو السباب. ونشر النشطاء رسالة قالوا فيها: 'أفيخاي أدرعي يريد إقناعك أنه بشر مثلك، وأنه ليس عدوًا، فهو يظهر جانبًا إنسانيًا بينما يدرسك بجدية من أجل الإيقاع بك أمنيًا، فغادِر صفحته فورًا، فليس هناك مبرر لهذه العملية التطبيعية الغبية'. لكن للأسف لم تلقَ الدعوة قبولا كبيرًا، وأنا هنا أكررها، فإذا كنا بفعل تخاذل الأنظمة، وتآمر المجتمع الغربي غير قادرين علي الدفاع عن شرفنا وأعراضنا ومقدساتنا المنتهكة، فليس أقل من أن نحتفظ برصيد الغضب كامنًا في الصدور، إلي أن ينعم الله علينا بجيل جديد.. أو كما قال الراحل الكبير أمل دنقل في قصيدته 'لا تصالح': وغدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ، من أَضْلع المستحيل