نعم، إنها عودة المحارب القديم، فنحن لم نذهب إليه، وإنما هو الذي أتي إلينا، ونحن لم نبحث عنه، وإنما هو الذي دلنا عليه، ونحن لم ننتظره، ولكنه انتظرنا، وقد طوي الزمن إلينا، عندما قررنا أن نطوي الزمن إليه. هي معجزة أخري من معجزات الجندية المصرية، ولكنها خالية تمامًا من المصادفة، فكأنها فعل 'مدبر من أفعال الروح، لا من أفعال الجسد، فعل اختار شخصه ومكانه ووقته بعناية فائقة، ليرسل إلينا، نحن المصريين، في لحظة خطر وشدة وتحدَّ، وفي أوج معارك الإرادة والاستقلال، رسائل لا تدركها الأبصار، وربما لا تدركها العقول، وإنما تدركها القلوب والأفئدة. لست أحسب بحسابات الوجدان الخالصة، أن الأمر من قبيل المصادفة العشوائية، فقد عثرت علينا عظام الجندي المجند محمد عطوة، بصحبة خوذته وزمزميته، وفردة من حذائه العسكري الثقيل، في لحظة فارقة، هي نفسها اللحظة التي كان ينبغي أن تلي حرب أكتوبر المجيدة، فعندما أسقطنا أربعين عامًا عجافًا من عمر الزمن المصري، تم وصل ما انقطع. فحسابات الزمن التاريخي، وبحسابات أعمار الشعوب، وحياة الأمم، يكاد أن يكون ما بين تاريخ أكتوبر 1973 ويونية وامتداده في 2014، هو مجرد فاصلة بين كلمتين، كانت الأولي عملًا عبقريًا خارقًا من أعمال التخطيط الاستراتيجي، والتعبئة القومية، والبطولة والبذل والفداء، وجاءت الثانية كأنها الموجة التالية مباشرة عليها، عملًا مبدعًا من أعمال الإرادة الوطنية الجامعة، التي تعيد بناء الجسور فوق مجري التاريخ الوطني. ولست أحسب -أيضًا- بحسابات العقل الخالصة، أن الأمر من قبيل المصادفة العشوائية، فهي بكل دلالة ومعني ومغزي مصادفة موضوعية، أي أنها جاءت تمامًا في وقتها، لم تتقدم عليه، ولم تتأخر عنه، فعندما تدفق نهر العرق فوق أضلاع القناة، كان طبيعيًا أن يلتقي بنهر الدم الذي يكاد يشكل حوضًا جوفيًا في جسد القناة وتخومها، وهي مصادفة لم يحفظها الرمل، وإنما حفظها التاريخ، ولم يصنعها الخيال، وإنما صنعتها الحقيقة. نعم، إنها عودة المحارب القديم، لكننا لم نقرأ رسائل العودة كما كان ينبغي أن تقرأ، ولم نوزعها علي الناس، كما كان ينبغي أن توزع، فقد كان ينبغي أن يعجن طحينها ويخبز ويوزع أرغفة معنوية يقتات عليها شعب في أمس الحاجة إلي قوت معنوي. إنني أعرف أن الجيش المصري العظيم مارس تقاليده الرفيعة باكتمالها مع عظام الجندي العائد، فقد تدفأت عظامه في نجوم العلم، وتم دفنه في جنازة عسكرية بكل الرفعة والهيبة، ولكننا في كل الأحوال تعاملنا مع المحارب الشخص، لا المحارب الرمز، تعاملنا مع الجندي المعلوم، لا الجندي المجهول، ولهذا تحول الموضوع كله، إلي خبر أو تحقيق صحفي، ثم إعلان رسمي باسم المحارب العائد، ورقمه العسكري، وتشييع جثمانه عسكريًا، ودفنه في مقابر الجيش الثاني الميداني، وهذا كله عمل صحيح في حدود تقاليد الجندية وشرفها، أعتقد أن عودة المحارب القديم كانت في وقتها ومكانها لكنني أعتقد أن عودة المحارب القديم كانت في وقتها ومكانها منحة تستوجب استثمارًا وطنيًا حقيقيًا للرسالة الخالدة التي تحملها. لقد سألت نفسي: ماذا لو أن ما تم العثور عليه أثناء حفر القناة الجديدة، أحد مراكب الشمس القديمة؟ وكانت الإجابة واضحة: إذن لأصبح المكان مزارًا وبقعة من الأضواء والموسيقي والألوان والاحتفال. ثم سألت نفسي من جديد: ألا ينبغي أن تكون مراسم العثور علي رفات محارب قديم، كمراسم العثور علي مراكب للشمس؟! فلم تكن في تاريخ مصر الطويل مراكب حقيقية للشمس غير أكتاف جنودها وسواعد محاربيها فعلي أكتافهم وسواعدهم، شبت شمس هذا الوطن، وصعدت في آفاق تاريخها الممتد المجيد. لقد منحنا الشهداء ملحمة بطولية في صورة رمزية، هي عظام محارب قديم، كانت قد أصبحت جزءًا من بنية القناة ذاتها، وهي ملحمة كان ينبغي أن تتحول إلي شلال ضوء في وجه الدنيا كلها، وكان ينبغي أن تصير نفيرًا يشع في وجدان المصريين مجدًا ورفعة وتضحية وإرادة قادرة علي منازلة التحديات وهزيمتها. نعم إنها عودة المحارب القديم الذي انخرط جنديًا في صفوف القوات المسلحة عام 1964 وشارك منذ البداية في حرب اليمن، وبغض النظر عن طبيعة النقد الذي قد يوجه من هنا أو هناك إلي هذه الحرب ونتائجها وآثارها علي أعمال القتال في حرب عام 1967، إلا أن هذه الحرب التي شارك فيها هذا المحارب القديم العائد بقوة، هي التي مكنت البحرية المصرية في حرب أكتوبر المجيدة من القيام بخنق استراتيجي بحري لإسرائيل كلها، قوة بحرية وأسطولًا تجاريًا، وأن تتجنب في الوقت نفسه أمرين: الأول دخول الطيران المعادي المتفوق في مواجهة مع وحداتها المفتقرة لعنصر الجو، والثاني التأثير المباشر للعمليات العسكرية التي تجري علي قوام قواتها، فقد ابتكرت البحرية المصرية لأول مرة في التاريخ البحري، أسلوب الخنق الاستراتيجي من بعد، مرتكزة علي باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الذي أصبح محررًا في حرب اليمن، علي جانب، وفي وسط البحر الأبيض المفتوح علي الجانب الآخر. وهذا المحارب القديم العائد لتوه، شارك في حرب الاستنزاف المجيدة، التي كانت جولة حربية رابعة سبقت الجولة الحربية الخامسة الحاسمة، وكانت جسرًا ضروريًا وحتميًا إليها، فقد نمت ونضجت خبرة القتال في المواجهات الممتدة فوق مسرحها الواسع العميق، ونمت ونضجت بالحديد والنار والدم، فلم نحصل علي خبرات قتالنا في حرب أكتوبر بالتلقين، ولم نقدم للتحديات والصعاب التي واجهناها حلولًا من النظريات، ومن بطون الكتب، فقد أبدعنا حلولنا في سعير النار، وفي أتون المواجهة العملية. وهذا المحارب القديم العائد لتوه، خرج من الخدمة قبيل حرب أكتوبر بقليل، ولم يكن خروجه مع دفعات كاملة استراحة لمحارب، وإنما كان عنصرًا من عناصر خطة التعمية الاستراتيجية التي استبقت الحرب، ولهذا وجد نفسه قبل أيام من بدء العبور العظيم علي خطوط النار منخرطًا في حرب لم تتوقف حتي الآن محاولات استقراء دروسها في أكبر الاكاديميات العسكرية حول العالم. ثم إن هذا المحارب العائد لتوه، نال شرف الشهادة يوم 18 أكتوبر، وهو يوم مشهود من أيام هذه الحرب، إذ كانت رؤوس الجسور المصرية في عمق سيناء، قد تشبثت تمامًا بالأرض، وصدت عنها كل الهجمات الإسرائيلية المضادة وردتها مهزومة علي أعقابها، فقد كانت معركة الدبابات الكبري في صحن سيناء والتي امتدت أسبوعًا كاملًا، قد دمرت تمامًا نصف ما تملكه إسرائيل من الدبابات في مواجهات صدامية طاحنة، وكانت نتائج النصر الكبير تطرق الأبواب بقوة، بينما ازداد التوازن الاستراتيجي للعدو اختلالا، وأصبحت الهزيمة واقعًا لا فكاك منه، ولهذا اندفع العدو بشراسة ضارية معززًا برصيد متجدد من الأسلحة الأمريكية يقذف خطوط الإمداد ومؤخرات القوات ليقوم بالتفافة كان محكومًا عليها بالفناء لتطويق وحدات الجيش الثاني الميداني، وأغلب الظن أن نهر الرمل الكبير قد ابتلع جثمانه الطاهر بخلخلة قنبلة زنة 1555 رطل حملتها طائرة فانتوم كانت قادمة وشحنتها من الأسلحة والقنابل من الولاياتالمتحدةالأمريكية، فالثابت أن القوات المسلحة مسحت هذه المنطقة بعمق يزيد علي متر لتطهيرها من الألغام بينما لم يعثر عليه إلا بعد أن تجاوز الحفر في القناة عمق 20 مترًا، لكن الشاهد أن الرمل كان حانيًا، فلم يتلف رقمه العسكري في قرصه المعدني، ولم يلحق ضررًا بكلمة 'الجيش المصري'، التي ظلت عنوانًا باقيًا فوق صدر 'أفروله' البالي في بطن الرمال. نعم إنها عودة المحارب القديم، الفلاح الفقير ابن الفلاح الفقير، الذي اضطر إلي ترك مقعد الدراسة طفلًا بعد عام واحد، كي يحمل الفأس إلي جوار أبيه، في أرض ليست له، من أجل محصول قد لا يزيد نصيبه فيه علي أكوام من القش وأحفان من الأرز، وأرغفة مما يقيم أود ابن آدم، القانع برزقه، الذي يخر للرحمن سجدًا علي ما يراه أنعمه، الذي يتخلل خلايا جسده حب طاغ كأنه المالك الوحيد له رغم أنه لا يملك فيه غير الفضاء الرحب، والسحب العابرة، وروائح زهور البرتقال والليمون، وأنفاس سنابل القمح التي استوت علي عودها في الحقول قبل موسم الحصاد، فالوطنية عنده ليست خطبة نارية في مؤتمر حزبي أو انتخابي، وليست أغنية حماسية في مذياع، وهي ليست صكًا للكسب المشروع أو غير المشروع، ليست مأربًا وليست مذهبًا، ولكنها عقيدة، شأنها شأن الإيمان الذي يجري في كريات دمه. تري كيف يرانا بعيونه هذا المحارب القديم العائد لتوه؟! كيف يري قسمة العدل في الثروة والأرض، والبذل والتضحية؟! كيف يري القسمة بين الذين حاربوا وحرروا ودفعوا بسخاء صلب أعمارهم، وفاكهة أيامهم وفيض دمهم وبين أولئك الذين انتشروا من ورائهم وتوحشوا وهم يستبيحون الأرض، ويحتكرون الثروة، ويتاجرون بمقدرات الوطن، أولئك المالكين الجدد لأرض لم يبذلوا من أجلها حبة عرق، ولم يدافعوا عنها بقطرة دم، أولئك الذين لا يلبون نداء الوطن للعطاء في لحظة شدة وخطر، وهم يجلسون فوق تلال مال اقتنصوه غيلة في غيبة تكافؤ الفرص، والعدل والقانون، في ظل دولة متداعية تزاوجت فيها سلطة الحكم وسلطة المال في مزرعة مفتوحة للفساد؟. لك أن تتساءل: بأي معيار يمكن أن توزن الآن 'خوذة' هذا المحارب القديم العائد لتوه، إذا كان المعيار هو التاريخ الوطني، فإن مكانها هو متحفه الخالد، أما إذا كان المعيار هو السوق الحاضر، فربما يكون مكانها عربة متداعية يدفعها بائع 'روبابيكيا'! نعم إنها عودة المحارب القديم، وهي عودة بالرمز والمعني والرسالة والروح، أما الرسالة فهي رسالة الوطنية الصادقة بعيدًا عن زخرف الحياة السياسية التي كادت تتحول علي يد أصحاب الثروات ومحترفي أدوات السوق، إلي امتداد طبيعي لسوق الحاضر، لا قانون له، فيه من أساليب الغش والتزوير والكذب، أكثر مما فيه من قيم الإيمان والانتماء والصدق. وأما الروح فهي روح مصر الخالدة المسكونة بالتحدي والمنازلة ومجابهة الصعاب، والقفز فوق المستحيل، وفرض الإرادة، وأما الرمز فهو أولًا وقبل كل شيء وحدة التاريخ الوطني، فالتاريخ الوطني، وفي إطاره، التاريخ العسكري، ليس سلسلة منفصلة من الأحداث والوقائع والحلقات، لكنه تيار بلا فواصل، ونهر بلا قواطع، وأرض مفتوحة دون فجوات، وهذا الإدراك هو أحد معاني الوعي التاريخي، كما أنه أحد تجليات الذاكرة الوطنية، وأهم محددات الثقافة الاستراتيجية علي المستوي الوطني. وأما المعني فهو ما يتخلل ذلك كله، من قيم مصر الراسخة، قسطًا في الميزان، وعدلًا بين الجهد والعائد، ومساواة في الحق والواجب. الخلود لشهداء مصر.. المجد لمدرسة العسكرية المصرية.