هو عنوان الإصدار الأول في سلسلة 'المكتبة السياسية' التي دشنتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، هذا العام 2014. وهي سلسلة تُعني بنقد خطاب الإسلام السياسي. وكتاب 'السلفيون والسياسة' باكورة هذه السلسلة هو أحدث إسهامات الدكتور محمد حافظ دياب. وتأتي أهمية هذا الكتاب من أمرين: الأول توقيت صدوره، حيث الظرف السياسي يموج بتغيرات دراماتيكية متسارعة منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، وموجتها الثانية الجبارة في 30 يونية وصعود وهبوط تيار الإسلام السياسي. الثاني أن مؤلف هذا الكتاب باحث جاد ومدقق، متخصص في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وخاصة علم اجتماع المعرفة والدين والثقافة. وحاصل علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2013، وحائز علي وسام الفنون والآداب من الطبقة الأولي عام 2013. ومن إسهاماته في هذا المجال أيضًا: 'سيد قطب الخطاب والأيديولوجيا' و'الإسلاميون المستقلون الهوية والسؤال' و'ذاكرة الإسلام والغرب'. أهدي الدكتور حافظ دياب كتابه إلي الدكتور نصر حامد أبو زيد، وهو إهداء كفيل باستحضار حالة الصراع المستعر بين قوي وتيارات الإسلام السياسي بمنظومة قيمها الاتباعية الجامدة، وشبكة مصالحها ومنافعها، وبين تيار الحداثة والعقلانية وحرية الفكر والإبداع والبحث التي يمثلها الدكتور نصر حامد أبو زيد. لم يكن حضور السلفيين في المشهد السياسي المصري قويًا لافتًا أو مُلحًا في الظهور مقارنة بجماعة الإخوان المسلمين التي تميل إلي الضجيج والتباهي باستعراض القوة، والميل إلي المبالغة والتضخيم في تقدير الذات. ولكن الوضع اختلف كثيرًا بعد ثورة 25 يناير 2011، التي ظهر السلفيون بعد نجاحها كقوة ضاربة، احتلت الموقع التالي لجماعة الإخوان مباشرة رغم حداثة الظهور والاشتغال العلني بممارسة السياسة، وهو ما جعل السلفية تبدو ظاهرة سياسية تثير شيئًا من الدهشة والغموض. ذلك هو ما أثار الفضول العلمي للدكتور محمد حافظ دياب، وحدا به إلي مقاربة الظاهرة السلفية، مقاربة علمية رصينة وشاملة، ابتداءً من مصطلح 'السلفية' ذاته، الذي لا يقتصر علي الدلالة الزمنية فقط، أي الرجوع إلي الماضي الإسلامي الزاهر في بدايات المبعث النبوي الشريف، والقرون الهجرية الثلاثة التالية له، واستلهام نسقه القيمي والتصوري ورؤيته للعالم وإنما 'السلفية' في التحليل الأخير 'أشبه بآلية تفكير تجعل من تجارب الماضي حكمًا علي شواهد الحاضر، ويوحي بقابلية هذا المصطلح للانفتاح ليس علي الفكر الديني فحسب، بل علي كل إنماط التفكير الأيديولوجية الأخري، كما يمكن أن يستعمل المصطلح كنظير لكل فكر تقليدي ينبني أساسًا علي التقليد والجمود ويفتقر، من ثم، إلي مقومات التفكير العقلاني والنقدي'. 'ص: 20'. علي أن أهم ما يقدمه كتاب 'السلفيون والسياسة' هو تشريحه لبنية الخطاب السلفي، ونقده العميق لأنساقه الفلسفية، فلم يكتف الدكتور 'دياب' بمجرد العرض والتوصيف الخارجي لهذا الخطاب، ولكنه يضعه علي محك المساءلة النقدية الدامغة، التي تعري نقاط ضعفه وقصوره، وتشير إلي مكامن الخطر فيه: 'ذلك أن الجذر الفلسفي لهذا التصور، ينهض بالاتكاء علي نقطة زمن صفري أو ذهبية تقع في الماضي، قريبة من الأصول، كي تتحول بعد ذلك إلي إطار مرجعي، تنبني عليه كل حركة في الحاضر، أو كل حركة إلي الأمام في الزمن، وعلي نحو يتحول معه الزمن إلي ما يشبه الحركة الدائرية التي تقود دومًا إلي مبتدئها'. 'ص: 57'. ثم يقدم 'السلفيون والسياسة' مسحًا تاريخيًا للظاهرة السلفية، عبر الإشارة إلي المحطات الرئيسية التي مرت بها في رحلة نشوئها وارتقائها، حيث بدأ المشروع مع الإمام أحمد بن جنبل مؤسس آخر المذاهب السنية الأربعة الأساسية في نهاية القرن الثاني الهجري، ثم تبلور وتعقَّد مع الفقيه ابن تيمية، في القرن الثامن الهجري، ثم استعاد حيويته في القرن الثاني عشر الهجري علي يد محمد بن عبد الوهاب في نجد بشبه الجزيرة العربية، وانداح منها بالتدريج إلي مصر والمغرب وبقية الأقطار العربية والإسلامية حتي عصرنا الراهن. علي صعيد الممارسة العملية للتيار السلفي يشير الكتاب منذ الصفحة الأولي في إشارة دالة إلي النهج البرجماتي للتيار السلفي، وهو ما تجلي في عقد مؤسسه الإمام أحمد بن حنبل صفقة يتقاسم بمقتضاها السلطة مع الخليفة العباسي المتوكل عام 234ه وهو ما تكرر مع مؤسس التيار السلفي في العصر الحديث محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي حين: 'أقام ابن عبد الوهاب عام 747 تحالفًا ترجمه ميثاق تعاقدي ليس مكتوبًا علي الأرجح مع الأمير محمد بن سعود، الذي تعهد بحمل راية الدعوة الوهابية وحمايتها بالقوة إن استدعي الأمر، وتزوج من ابنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، علي قاعدة تقاسم المجال العام بين عصبية آل سعود القبلية، ودعوة دينية قادها ابن عبد الوهاب، فيما كانت الوهابية تبحث عن قوة تحميها من أجل سلامتها ونشر مبادئها، وآل سعود بحاجة إلي مظلة دينية وشرعية تسوغ تطلعاتهم'. 'ص: 127'. أما عن الفلسفة التي تحكم علاقة السلفيين بالسياسة فإن الكتاب يشخصها علي أنها نوع من زهد العاجزين، قائلاً: 'والأمر في النموذج السلفي أقرب إلي ما يمكن أن نسميه 'السياسوية الإسلامية الكامنة أو المنتظرة' فيما السلفية تعتزل السياسة، ليس رفضًا لها علي الطريقة الصوفية، وإنما لأن اللحظة التاريخية لا تواتي نموذجها السياسي المنشود، أو لأنها ليست علي استعداد لدفع كلفة وتنازلات الدخول في السياسة'. 'ص: 101'. وهو ما تجلي بوضوح أكثر في موقف السلفيين من السياسة قبل ثورة 25 يناير وبعدها: 'ويشار هنا إلي أن ادعاء عدم الاشتغال بالسياسة، والتوافق والمهادنة مع النظام السابق، ثم التحول بعد نجاح الثورة، مثّل طريقة الجماعة السلفية وأسلوب خطابها ومنحي رموزها وبخاصة حين مالت إلي اتخاذ مواقف نقيضة في إطار التغيرات المتلاحقة وهي مواقف جمعت بين المبادرة والتعبئة والغموض والأزدواجية، وتعدد الأصوات بين الغلو والتشدد والمرونة واللين.' 'ص: 107'. لقد قدم كتاب 'السلفيون والسياسة' كثيرًا من الإضاءات التاريخية والأيديولوجية الهادية، والمواقف العملية في السياسة والفن والدين، وكشف كثيرًا من الآليات الظاهرة والمضمرة التي يراوح بينها التيار السلفي في التعامل مع الواقع من حوله. ما أحوج واقعنا السياسي والثقافي إلي مثل هذه الإسهامات العلمية الجادة، ترسيخًا لوعي حقيقي، وتكوينًا للعقلية الناقدة، بعد أن تم تزييف الوعي، وسادت أنماط التقليد والاتباع والاجترار منذ عقود طويلة مضت!!