هناك معطيات كثيرة ظهرت علي سطح الأحداث في قضية السلام، خلال الأيام القليلة الماضية، تشير في مجملها الي أن الأمور والأوضاع لن تبقي علي حالها بعد الجريمة البشعة واللاانسانية التي ارتكبتها القوات الخاصة لجيش العدوان الإسرائيلي ضد سفن الاغاثة والمساعدات الانسانية التي ضمتها قافلة الحرية، وما قامت به هذه القوات من عمليات قتل همجية ضد المتطوعين للاغاثة والناشطين في جمعيات حقوق الانسان الذين كانوا متجهين الي غزة في مهمة نبيلة يهدفون منها كسر الحصار وانقاذ الشعب المحاصر،...، فإذا بهم يتحولون إلي ضحايا لقوات الاحتلال يحتاجون إلي من يغيثهم وينقذهم من براثن القوات الإسرائيلية. واحسب ان العالم الذي صدمته همجية إسرائيل، ومدي ما تمثله من تهديد للأمن والسلم الدوليين، وما تقوم به من ممارسات قمعية وعدوانية، وما تعلنه وتطبقه من ازدراء واضح لكل القيم والقوانين الدولية، وما تؤكده في كل يوم وكل لحظة من خروج علي الشرعية الدولية، لن يستطيع ان يستمر في صمته وسكوته الدائم علي جرائم إسرائيل الفجة والتي زادت عن الحد، وتخطت كل الخطوط وتجاوزت جميع الحواجز. وفي هذا الاطار هناك عدة نقاط محددة تستحق ان يتم الاشارة اليها وتسليط الضوء عليها اذا ما اردنا رصدا لتداعيات الجريمة الإسرائيلية الأخيرة، وما نجم عنها من تأثيرات، ثم ردود افعال هنا وهناك، وما هو المتوقع خلال الايام والاسابيع القادمة، ثم ما بعد ذلك. وانطلاقا من ذلك المنظور، لابد ان يلفت نظرنا بقوة رد الفعل الاقليمي والدولي المتصاعد والرافض للجريمة الإسرائيلية وما تمثله من بشاعة الفكر وتدني السلوك وانحدار جميع القيم الانسانية الواجب التمسك والعمل بها بين البشر، ومن جانب الدول. وأهمية ما يحدث الآن، ليست قاصرة فقط علي كم المظاهرات التي خرجت في اماكن كثيرة من العالم تندد بالعدوان الإسرائيلي، وتستنكر الجريمة البشعة، وتطالب برفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في القطاع،...، ولكن الاكثر اهمية هو ان هذه الهبة الانسانية الرافضة والمستنكرة والمنددة والتي اخذت صورة جماعية شاملة علي المستوي الدولي، قد ولدت ضغطا شعبيا علي المسئولين والسياسيين في هذه الدول يطالبهم بالاعلان عن نفس الموقف الرافض والمستنكر للجريمة الاسرائيلية، ويطالبهم في ذات الوقت باتخاذ موقف لانهاء الحصار الإسرائيلي الظالم علي غزة واهلها،...، وهو ما ينبيء بمتغيرات متوقعة علي الساحة الدولية في هذا الاتجاه.
وفي اطار اكثر تحديدا يمكننا القول قياسا علي ما هو جار، امامنا الآن وما هو باد علي السطح بأننا نشهد الآن بدايات تغير اكثر عمقا واكثر قوة في الموقف الاوروبي تجاه الحصار علي غزة، بصفة خاصة، والسعي لتغيير الوضع القائم، والبحث عن صيغة مناسبة ومقبولة لوضع حد لإستمرار الصمت الدولي علي جرائم اسرائيل المتكررة. والمتوقع ان نري سعيا في ذلك من جانب المجموعة الاوروبية، تقوده فرنسا وانجلترا، يعمل علي إعادة احياء الترتيبات التي كانت قائمة من خلال اتفاقية المعابر والتي كانت تنظم العبور من منفذ رفح تحت إشراف دولي، وهو ما كان قد انتهي نتيجة الانقلاب الذي قامت به حماس في غزة، وتصفيتها لوجود السلطة الفلسطينية الشرعية هناك،...، واعتقد ان المتابع لتصريحات وزير الخارجية الفرنسي كوشنير يمكنه ملاحظة سيرها في هذا الاتجاه.
وفي ذات الاتجاه ايضا لابد أن نشير الي ان الجريمة الاسرائيلية البشعة والفجة والتي مثلت تحديا لجميع المشاعر الانسانية، وحظيت باستنكار شعبي ودولي شامل، قد جاءت بمثابة قوة مساندة للموقف الامريكي الباحث عن وسيلة لتحقيق السلام في الشرق الاوسط، في اطار مقترحات ومبادرة اوباما، والتي تعرضت للسقوط في هوة الشلل، والتجمد امام صخرة العناد الإسرائيلي، ورفض الحكومة الاسرائيلية اليمينية والعنصرية الإستجابة أو التحرك، وهو ما جعل الادارة الامريكية عاجزة امام اسرائيل،...، وهو ما افقد اوباما الكثير من مصداقيته امام العالم العربي والاسلامي، وجعله مثلا حيا لقوة وطلاوة الحديث، وضعف القدرة علي الفعل، في نظر الكثيرين في منطقتنا وغيرها من مناطق العالم. والملاحظ في هذا الشأن، انه بالرغم من بعض التصريحات الامريكية التي اعلنت من جانب العديد من المسئولين في ادارة اوباما، وعلي لسانه هو شخصيا، والتي اشارت الي حق اسرائيل في التأكد من خلو شحنات الاغاثة، وحمولة السفن من اي اسلحة يريد البعض ادخالها الي القطاع، وضرورة التأكد من منع امداد حماس بالسلاح،...، إلا أن هذه التصريحات قد تضمنت ايضا التأكيد علي ضرورة تغيير الوضع القائم، وإيجاد وسيلة لوقف الحصار، وإنهاء المعاناة اللاانسانية التي تفرضها إسرائيل علي القطاع وأهله. ونستطيع القول ان التحرك الامريكي الجاري الآن يسير في هذا الاتجاه، وان هناك افكارا وتصورا امريكيا يجري الاعداد له وطرحه علي الاطراف المتصلة بقضية السلام الفلسطيني الاسرائيلي بصفة عامة، وان هذه الافكار وذلك التصور تضع في حسابها الآن استغلال الوضع السييء الذي اصبحت فيه حكومة نتنياهو الآن بعد جريمتها الفاضحة، والاجماع الدولي الرافض لهذه الجريمة، كي يتم تطويعها لقبول الطرح الامريكي. وفي هذا الخصوص لايمكن ولايجب ان نفصل بين التحرك الاوروبي المتوقع والبادي الآن، وبين التوجه الامريكي والرؤية الامريكية، حيث ان التنسيق قائم ومستمر، والاتفاق علي الادوار موجود ودائم، وهذا طبيعي، ومسلم به من الجميع حتي ولو ظهر ان هناك تمايزا في بعض المواقف وفي بعض الاحيان.
وإذا كنا قد تناولنا بالرصد المتغيرات المتوقعة علي الجانبين الاوروبي والامريكي وقلنا ان هناك تحركا اوروبيا في مسألة المعابر وفك الحصار، بدأت مؤشراته تلوح في الافق، وان هناك ايضا افكارا وتحركا امريكيا بخصوص ذلك، ولكنه يمتد ليشمل عملية السلام برمتها، والطرح الخاص بحل الدولتين، والمفاوضات غير المباشرة، وغيرها من القضايا المرتبطة بالقضية كلها في مجملها وتفاصيلها نظرا لتأثرها بالقطع بما جري وما نجم من تداعيات لجريمة إسرائيل البشعة، وانكشاف وجهها العدواني والبغيض بالنسبة للعالم كله، وموجة الاستنكار والسخط الدولي الناجمة عن ذلك، الا اننا لم نتناول بعد الموقف التركي رغم اهميته وبروزه علي سطح الاحداث بشكل واضح ولافت للنظر، وباعتباره احد العوامل الأساسية في الحدث. وبالنسبة للتطورات المتصلة بالجانب التركي في هذه القضية نستطيع القول، بأنه كان واضحا ان هناك استهدافا اسرائيليا مباشرا لتركيا خلال عملية الهجوم المدبر من جانب القوات الخاصة لجيش العدوان علي السفن التي تضمها قافلة الحرية، في نفس الوقت الذي تستهدف فيه هذه القوات منع القافلة من كسر الحصار المفروض علي غزة. والملاحظ في هذه المسألة ان القتلي التسعة، وغالبية ان لم يكن كل المصابين في الهجوم علي القافلة هم من الاتراك، وهو ما جعل تركيا تدرك بوضوح انها المعنية بصورة مؤكدة بالهجوم الاسرائيلي، وان تلك رسالة معلنة من جانب اسرائيل لا لبس فيها ولا غموض، وأن تلك صفعة مقصودة وواضحة، وهو ما شكل صدمة كبيرة وحرجا شديدا للجانب التركي خاصة انه تربطه بإسرائيل علاقات عميقة، ويمكن القول بأنها استراتيجية وهناك تعاون كثيف بينهما علي جميع المستويات الاقتصادية والعلمية وتعاون اكثر عمقا وكثافة في الجوانب العسكرية بالذات. من هنا شاهدنا وسمعنا صيحات الغضب التركي، وبيانات الاستنكار والشجب والادانة، التي خرجت من انقرة، وعلي لسان جميع المسئولين فيها، ابتداء من وزير الخارجية ونواب البرلمان وحتي رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية،...، كما شاهدنا وسمعنا ايضا المظاهرات الحاشدة، التي عمت الشارع التركي، وما صاحبها من تنديد بالعدوان الإسرائيلي، ومطالبة بالرد، سواء كان دبلوماسيا عن طريق قطع العلاقات، أو غير دبلوماسي بسبل واجراءات اخري اكثر خشونة واشد عنفا.
كل هذا طبيعي في اطار رد الفعل المتوقع من جانب تركيا علي الجريمة الإسرائيلية، وما ظهر خلالها من استهداف متعمد ومهين في نفس الوقت لتركيا،...، ولكن رغم حدة التصريحات والبيانات الصادرة عن المسئولين في انقرة، وبالرغم من سخونة والتهاب مطالب الشارع التركي، الا ان هناك سعيا تركيا واضحا لضبط ايقاع الانفعال، ورد الفعل العملي، حتي لا يخرج عن السيطرة رغم الغضب المعلن والواضح. والمهم في هذا الخصوص اذا ما اردنا رصد المتغيرات والتداعيات الناجمة عن الجريمة الإسرائيلية، فلابد ان نقول بوضوح ان هناك شرخا قد حدث في العلاقات التركية الاسرائيلية، رغم محاولات السيطرة علي الانفعال، وضبط موجات الغضب ورد الفعل، وان هذا الشرخ قابل للاتساع، وسيؤثر بالقطع، شاء الطرفان ام ابيا، علي العلاقات المتميزة التي كانت قائمة بين البلدين منذ عام 8491 حتي عدة أيام خلت. وإذا ما اردنا البحث عن الدوافع والاسباب التي وراء استهداف اسرائيل لتركيا خلال الجريمة علي قافلة الحرية، فسنجد في مقدمة هذه الدوافع وتلك الاسباب ذلك المنعطف الذي دخلت فيه الحكومة التركية منذ فترة تجاه القضايا الاقليمية بصفة عامة والذي تصاعد خلال الثلاثة اعوام الماضية وبلغ ذروته منذ اسابيع في الاتفاق التركي البرازيلي الايراني بخصوص تبادل اليورانيوم المخصب، وهو الاتفاق الذي رأت فيه اسرائيل خطوة معوقة لجهودها في تضييق الخناق علي ايران، ومحاولة دفع الولاياتالمتحدة والعالم الغربي لتوقيع عقوبات شديدة عليها كمقدمة علي طريق امكانية توجيه ضربة عسكرية لها لتدمير قدرتها النووية متسارعة النمو. ومن الواضح ان اسرائيل قد استاءت من الموقف التركي في الشأن الايراني، واعتبرت ذلك توجها ضد مصالحها، واحباطا لسعيها المستمر لاقناع الولاياتالمتحدة بصفة خاصة بضرورة الهجوم علي ايران وتوجيه ضربة عسكرية قاسية لها او السماح لإسرائيل بالقيام بذلك، بدعم امريكي قوي. ومن الواضح كذلك ان اسرائيل قد استاءت من الغزل التركي الواضح مع حركة حماس واعتبرت ذلك ايضا تصرفا وسلوكا غير مقبول من حليف تاريخي لها تربطه بها علاقات استراتيجية في جميع المجالات، وخاصة التعاون العسكري الواسع والمكثف. ومن هنا كان الاستهداف الاسرائيلي لتركيا، وكانت الرسالة واضحة خلال الجريمة الغاشمة واللاانسانية التي تعرضت لها قافلة الاغاثة الانسانية المتوجهة إلي غزة.
وفي إطار المتغيرات والتداعيات التي نجمت عن الجريمة الاسرائيلية البشعة يجب ألا نغفل عن المتغيرات التي وقعت في الداخل الاسرائيلي حيث بات واضحا ان هناك نوعا من الخلاف داخل الحكومة والمجتمع الاسرائيلي حيث يقف البعض موقف التأييد القوي والشامل لما قامت به الحكومة، ويطالب باستمرار ذلك النهج القوي وهذه اغلبية حتي الآن، بينما يري البعض الآخر ان ما حدث قد كشف وجه اسرائيل العدواني واللاانساني للعالم، وان ذلك قد اضر بصورة اسرائيل علي المستوي الدولي وجعلها في صورة المعتدي الغاشم وانه كان من الممكن منع القافلة من كسر الحصار دون اللجوء إلي عمليات القتل والعنف والارهاب التي ارتكبت، وهذه اقلية. لكن يبقي في كل الاحوال ان الجريمة وما تبعها من تداعيات قد اضعفت موقف الحكومة الاسرائيلية، ونتنياهو بالذات، وانها فتحت الباب واسعا امام المطالبات الاقليمية والدولية المنادية بضرورة انهاء الاحتلال الاسرائيلي، وقبول اسرائيل بحل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة،...، وقبل ذلك انهاء الحصار علي غزة.
والسؤال الآن: وماذا بعد؟! وإلي أي مدي يمكن ان تتطور هذه التداعيات؟. سؤال لن تتأخر الاجابة عنه كثيرا.