مواطن عالمي، في ظل حكومة عالمية، يتمتع البشر تحت سمائها بحقوق متساوية، وتتوزع الموارد والخيرات وفق أسس عادلة، مدينة فاضلة بحجم المعمورة، هكذا راود الحلم الانسان طويلا، لكن ما من محاولة حالفها النجاح، فالنظام الدولي منذ عُرف أساسه القوة لا العدل، إلا أن الحلم ظل قائما، علي الاقل عبر تصورات نظرية بعضها حاول تجاوز الرومانسية والمثالية، ورسم رؤي تتلاقي - علي نحو ما- مع الواقع!. لكن يبدو أن خروج الفكرة من حيز النظريات الي الواقع سوف يحمل في طياته كابوسا هائلا، لو جاءت علي الصورة التي بشر بها ميكياڤيلي القرن العشرين هنري كيسنجر، السياسي الداهية الذي كان ابرز وزراء خارجية امريكا في القرن الماضي!. الثعلب العجوز يحلم ببناء مجتمع عالمي جديد، لن يكون إلا لقوة واحدة، وحكومة واحدة هي الحكومة العالمية، ويتنبأ بقرب اللحظة التاريخية لميلاد الفكرة علي انقاض الشرق الاوسط، وبعد ان يعاد فكه وتركيبه. وفي ظل غفوة الصين وروسيا أو بدقة أكثر غفلتهما، عما تخطط له واشنطن من حرب كبري يكون مسرحها الشرق الاوسط، ليتمخض الامر عن انفجار، ربما يشبه الانفجار الكوني، ولكن هذه المرة يكون مسرحه الأرض، وزمانه العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين!. وبينما التوقعات تدور حول العالم بعد الامبراطورية الامريكية، وهل يتجه نحو صيغة التعددية القطبية، أو الوصول لآخر المدي عبر تصور عالم اللاقطبية بغياب طبقة عليا من الدول الكبري وربما يقود هذا التصور الي التفكير الجدي- لأول مرة- في إعادة تأسيس النظام الدولي وفق منظور تنظيم يجسد فكرة الحكومة العالمية، كبديل لما عرفته البشرية عبر تجربتي عصبة الامم والامم المتحدة، يتغاضي كيسنجر عن كل هذه التفاعلات متمنيا كابوسه!!. علي أي حال: فإن الطرح الكيسنجري لا يمكن أن يكون القول الفصل، اذ سيستمر الجدل حول مستقبل البشرية، وأي نظام دولي تستكمل رحلتها تحت ظلاله، وفي كل الاحوال، فإنه من غير المتصور أن تواصل واشنطن سياسات العمل المنفرد، وعدم الاعتداد بالمؤسسات والمنظمات الدولية، وتجاهل الحلفاء الي ما لانهاية! القوة الواحدة، والحكومة الواحدة، بحسب قصد كيسنجر لا تعني سوي رصد الجانب الذي يروقه من المشهد العالمي، أي احتلال أمريكا لقمة الهرم الدولي- منفردة- بحكم قوتها العسكرية، لكنه يتجاهل ان قراءة المشهد من منظور الاقتصاد يؤكد ان العالم متعدد الاقطاب بالفعل، فإذا اتسعت دوائر الرؤية، فإن ذلك يقود الي ان القوة موزعة بشكل فوضوي علي صعيد العلاقات عبر القومية المتعلقة بالعديد من القضايا لعل أبرزها التغير المناخي، والمخدرات، والامراض المعدية و....و.... ولعل المنظور الاخير- تحديدا- يكون الدافع الاساسي للبشرية- باتجاه التفكير في بلورة افكار تنتظم في إطارها جميع الجهود لمواجهة قضايا لا تستطيع دولة مهما بلغت قوتها التعاطي مع ما تمثله من تهديدات وتحديات، وربما تكون تلك القاعدة التي تتأسس عليها فكرة الحكومة العالمية بصورة أكثر انسانية، لتبتعد عن التصور الوحشي الذي لا يترجم رؤية كيسنجر كمفكر أو سياسي، بقدر ما تعكس القوي التي يمثلها الداهية العجوز!. بعيدا عن احتكار القدر الاعظم من اسباب القوة التي تستحوذ عليها أمريكا حتي الآن، فإن العالم يشهد توزعا لعناصر القوة السياسية والاقتصادية اكثر افقية، مبتعدا عن التركيز علي التوزيع الرأسي كما في السابق.. وهذا التحول الذي نشهد تراكماته الكمية، ما يلبث ان يحمل في طياته تحولات نوعية تقود البشرية- الي تغير تاريخي حقيقي- يكون مسرحه العقود المقبلة، ساعتئذ يكون التصور الكابوسي لكيسنجر مجرد ورقة من تاريخ بغيض!.. وقد تكون تلك اللحظة مواتية تماما لاستدعاء حلم الحكومة العالمية ليلمس الانسان بعض تجلياتها الطيبة.. ربما!.