مصطفى عبدالله دائما كانت مصر مقصداً للنابهين من المبدعين في عالمنا العربي ممن أرادوا أن يتحققوا علي أرضها الطيبة بين شعبها المضياف، ومن أبرز هؤلاء "جورجي زيدان"، مؤسس " الهلال" الذي أسهم في إرساء تقاليد الصحافة الثقافية الشهرية التي كان لها فضل تنوير العقل العربي كله، وليس عقل المصريين فحسب، ولايزال المنصفون من كبار المثقفين العرب يسترجعون ذكرياتهم التي لا يمكن أن تنمحي من الذاكرة عندما كانوا ينتظرون، علي أحر من الجمر، قدوم عدد الشهر الجديد من"الهلال" علي ظهر دابة، أو علي متن طائرة. فقد كانت"الهلال" وأخواتها من المجلات والدوريات الثقافية التي انتعشت بفضل من تبنوها وتعهدوها من كبار المبدعين من أصحاب الأقلام والرؤي ومن أصحاب المشروع الثقافي والنهضوي، لذا فقد سرني كثيراً أن يعتني معرض القاهرة الدولي للكتاب بصاحب "الهلال" في نفس الدورة التي يضئ فيها جوانب ثورة 25 يناير في مصر وثورة الكرامة في تونس. فلابد لشباب العرب الثائر، وهو يصنع غده، من أن يتأمل جهود أجداده صناع نهضة أمته. وقد لفتتني كلمة صديقي الكاتب حلمي النمنم الذي يقف اليوم علي رأس مؤسسة "دار الهلال"، وهو يعي قيمة الإرث الذي ترتكن إليه هذه الدار العريقة التي نحتفل هذه الأيام بذكري مرور 150 عاماً علي ميلاد مؤسسها الذي يعتبر النمنم مسيرته أحد الأعمدة المستنيرة في الثقافة العربية منذ أسس مجلة "الهلال"، ولعب دوراً مهماً كمؤرخ للتراث الإسلامي والعربي، مشيراً إلي أن أهم كتبه "تاريخ التحديث الإسلامي" الذي يقع في خمسة أجزاء، فضلاً عن مشروعه الضخم في كتابة التاريخ الإسلامي في شكل روائي علي امتداد أكثر من عشرين رواية، ويشيرالنمنم إلي أن "تاريخ مصر في العصر العثماني"، كان في الأصل مجموعة من المحاضرات ألقاها جورجي زيدان علي طلاب كلية الآداب عند افتتاح الجامعة المصرية، يعد إضافة للمكتبة العربية. وذكر عادل عبدالصمد، رئيس تحرير"الهلال"، أن جورجي زيدان السوري الجنسية الذي عاش في مصر، تجسدت روحه الثورية في إصدار هذه المجلة سنة 1892، لتبدأ مشروعاً ثقافياً مهماً قدم من خلاله عدداً كبيراً من التراجم الأجنبية والعربية، ودعا إلي الحفاظ علي الثقافة الشرقية مع الأخذ بكل ما هو حديث ومفيد، كما اهتم بنظرية داروين "النشوء والارتقاء"، كما كان مهتماً بالثقافة العربية، ودعا إلي الاستقلال الأدبي وحرية الصحافة، فقد كان يري أنهما دليل علي الارتقاء، لذلك لم يكن غريباً أن يساعد في انتشار صحف مثل"اللواء"، كما سبق قاسم أمين في مساندة المرأة وهي تجاهد في سبيل حريتها ودعا إلي ضرورة خروج المرأة من "الحرملك" لتنزل إلي معترك الحياة العامة، وكذا أسهم في إنشاء الجامعة المصرية. وفي هذه الاحتفالية التذكارية قال المؤرخ أحمد حسين الطماوي إن جورجي زيدان أحب الشعر في صباه الباكر وقرأ للمتنبي وابن الفارض، ثم تمادي في هذا الاتجاه، وعندما أصدر "الهلال" كتبا عن المتنبي وأبي نواس وأبي العتاهية. كما أنه ابتدع في "الهلال" أساليب مبتكرة في الشعر، فتحدث عن وحدة القصيدة أو وحدة الموضوع وانتقد الطريقة المتبعة في هذا الشأن، حيث كان العرب يستهلون قصائدهم بالخمر والغزل، أما جورجي زيدان فيري ضرورة أن تكون القصيدة في موضوع واحد، وترتبط المقاطع بالمطالع، وتوظيف الوصف علي النمط الغربي، أي وصف الطبيعة والنفس والمشاعر، وانتهز فرصة الاحتفال بصدور ترجمة البستاني ل"إلياذة" هوميروس لكي يتوسع في هذا المطلب، ونادي بهذا الطلب عدد كبير من المجددين من الشعراء كالعقاد والمازني وغيرهما. وذكر الدكتور حامد أبو أحمد أن جورجي زيدان يمثل عدة محاور أولها ما يتعلق بالإرادة، فهو صاحب إرادة حديدية، جاء إلي مصر من الشام مثل غيره أواخر القرن التاسع عشر وأقام مشروعات ضخمة مثل مبني "دار الهلال"، كما أنه عاش سنوات قليلة لم تتجاوز الخمسين عاماً ورغم ذلك تعدت مساهماته هذا العمر القصير. والمحور الثاني أنه مؤرخ عميق الدراسة، وينم كتاباه "تاريخ العرب قبل الإسلام"، و"التمدن في العالم الإسلامي" عن مؤرخ كبير يكتب بحس الروائي، وكان حريصاً علي الخلفية التاريخية ولديه معرفة عميقة بالتاريخ أفادت من التراث الإسلامي.