ليس هناك عربي واحد لا يحزنه ما يجري في سوريا منذ سبعة أشهر وحتي اليوم. فهذا البلد الجميل وشعبه الأصيل لا يستحقان هذه المحنة وتداعياتها المأساوية وظروفها المؤلمة. لقد كانت دمشق علي الدوام "قلب العروبة النابض" ومفتاح تطلعاتها القومية النهضوية بعد سقوط الدولة العثمانية. كيف تستطيع الجماهير العربية من الخليج الي المحيط ان تنسي "الاقليم الشمالي" شقيق "الاقليم الجنوبي" في الجمهورية العربية المتحدة درة تاريخ العرب المعاصر؟ هنا خاطب الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الشعب العربي في كل مكان "أيها الأخوة المواطنون". وهنا أيضاً قصمت زمرة من الانفصاليين السوريين عري أول وحدة عربية منذ بداية الفتوحات الاسلامية. لكن شعب سورية العظيم ما يزال يحن الي أيام الوحدة العظيمة ووجه عبد الناصر وصوته وأحلامه. لقد كان الانفصال الاسود هو الطريق الي نكبة يونيو وكامب ديفيد واحتلال العراق وكل هذه الخيبات والاحزان التي تعيشها الأمة. هنا "مقهي هافانا" مطبخ الاحزاب العربية والانقلابات السياسية والمؤامرات ومساجلات الادباء والفنانين والسينمائيين، ومن لم يزر "مقهي هافانا" كأنه لم يزر سوريا. الله علي دمشق الشام، الله علي شوارعها ومقاهيها، الله علي شوارع دمشق الهادئة المغسولة بأمطار الخريف والشتاء والمعطرة بأريج المشمش والليمون في الربيع والصيف. الله علي سوق الحميدية والصالحية والمزّة. الله علي مثقفي سوريا وفنانيها ونهاراتها ولياليها. زرت دمشق مراراً وتكراراً منذ أول رحلة جامعية في فبراير عام 1967 قبل نكبة يونيو، وآخر زيارة كانت في ربيع العام الماضي في مهمة إعلامية. ولا أعرف لماذا شعرت في تلك الزيارة انني أعيد إكتشاف دمشق من جديد. انطوت صفحة سياراتها القديمة وامتلأت بأحدث السيارات، وإزدحمت متاجرها بأحدث السلع وأشهر العلامات التجارية، وتكاثرت أفخم المطاعم والفنادق، وتحولت بيوتها القديمة الي مطاعم سياحية ساحرة تمتلئ بالسياح الاجانب. وفي أحد تلك المطاعم التراثية إلتم شمل مجموعة محدودة من الاعلاميين العراقيين والسوريين واللبنانيين تلبية لدعوة من وزير الاعلام السوري السابق الدكتور محسن بلال. وهو واحد من أكبر الجراحين في العالم ورئيس قسم الجراحة في كلية الطب بجامعة دمشق وتقلد مناصب سياسية وبرلمانية ودبلوماسية عديدة، وبالصدفة حضر دعوة العشاء الدكتور نجيب ميقاتي قبل ان يصبح رئيس وزراء لبنان. لكن أحلي ما في تلك الدعوة ان السياسة كانت غائبة! وبعيداً عن هذا فان سوريا هي الفندق الاكبر للاجئين العراقيين في الخارج، ومنحتهم رعاية مميزة وسهلت عليهم حياتهم وتأشيرات دخولهم وخروجهم وتعليم أولادهم وفرص عملهم، ولذلك أسرت قلوب العراقيين الذين صارت لهم مستوطناتهم أو أماكن تجمعهم في دمشق وحلب وحمص والبوكمال ودير الزور واللاذقية. ومن يتجول في حي السيدة زينب أو أحياء جرمانة وصحناية وصيدناية في دمشق يخيل اليه انه يتجول في بغداد قبل الاحتلال الامريكي حيث يتجاور المسيحيون والمسلمون في السكن والاسواق والارصفة والمقاهي. نفس رائحة الطعام العراقي الاصيل. نفس وقفة الشبان في زوايا الشوارع ونفس دلع الشابات في الاسواق. ومثلما كان حالنا في بغداد قبل الاحتلال فان أحداً من العراقيين الجالسين في المقاهي العراقية في دمشق لا يسأل الجالس أمامه أو بجواره عن طائفته أو دينه. التسامح والانفتاح والسلام الاجتماعي كان دائما سمة مميزة في سوريا فكيف حدث هذا الشرخ الدامي؟ والله الله عليك يا جبل قاسيون، ويا لبهائك عندما يأتي المساء، ويا حزننا علي ما يجري في سوريا وما جري في العراق.