أتابع منذ سنوات أعمال المخرج الظاهرة خالد جلال الذي يقف مركز الإبداع واستوديو الممثل علي رأس قائمتها.. إذ بمزيج بين المجهود الأكاديمي والمقدرة الإبداعية الغامرين. نجح ذلك المخرج »الذي يبدو محصنا ضد ما يستشري في محيطنا من مظاهر الإحباط والترهل والتخلف والظلامية والإنكفاء علي الذات والغياب والرغبة في تعذيب النفس ومعاقبة المجتمع« في صياغة أو صناعة دفعات ثلاث من عشرات الفنانين الشاملين المدربين علي مهارات الإلقاء والغناء والحركة والتمثيل، وطارحا أمام ناظري المجتمع الثقافي المصري العديد من النجوم الموهوبين الجدد، المتمرسين بنحو علمي علي الأداء الدرامي بجميع أدواته. وربما كانت مسرحية »قهوة سادة« هي أشهر نتاج ستوديو الممثل ومركز الإبداع، وقد تحولت إلي شريط تليفزيوني بدأت بعض القنوات التليفزيونية بثه في عيد الفطر المبارك الماضي.. ولكنني أري الدفعة الثالثة من شباب مركز الإبداع »الجاري صياغتها الآن وتنمية مهاراتها« هي الأكثر اكتمالا وسط كتائب خالد جلال الفنية إذا جاز التعبير. فنحن بإزاء نمو كبير في قاعدة الانتخاب والاختيار التي يتم انتقاء أعضاء الدفعة منها ذلك مع النجاح المشهود لتلك المؤسسة الفنية »الصغيرة/ الكبيرة«، ومكانة الاسم الذي باتت تتمتع به، والنجاح المستمر، وإقبال الجمهور علي عروضها، وإشادة النقاد والكتاب. ونحن ثانيا بإزاء تطوير متواصل للمنهج والفكر الإبداعي في معمل أو ورشة إعداد الممثل تلك، لأن الإبداع عملية تراكمية تخترع معاملات ارتباط جديدة مع الاستمرار بين عناصرها، وتستولد صيغا ابتكارية غير مسبوقة مع التفاعل، وتخلق مناخات فيها تبادلية يتسع نطاقها بين الجمهور والمسرح الذي طال عزله عنه، وتمويته بقصدية مع سبق الإصرار والترصد للتخلص من مجموعة القيم التي تشيعها الحالة المسرحية وتذيعها في المجتمع من التنوير، إلي الإفاقة، إلي التعبير بأقصي ما يستملكه المبدعون من أدوات، إلي حرية الاشتباك الوجداني، والعقلي مع كل الحقائق الإنسانية والفلسفية والعقلية والإنسانية. ونحن ثالثا بإزاء مجموعات من الهواة يقفون علي شفا أو حافة الاحتراف متسلحين قبل تلك الدراسة المسرحية العملية والعلمية بدراساتهم الجامعية في تخصصات متنوعة تعطي عمقا أكبر لتجربتهم الفنية، وتثري طرائقهم في التعبير علي نحو تتكاثر وتتناسل تجلياته باستمرار. نهايته.. منذ شهور شاهدت عرضا مبهراً لتلك الدفعة بعنوان: »غناء للوطن« أبدع فيه الشباب »جماعيا وفرديا« أداء بوكيه من الأغاني الوطنية التي كانت وثائق تؤرخ لحركة الناس وطقوس النهضة ومعارك الاستقلال والتنوير، علي مر عقود وعهود. واليوم يقدم لنا خالد جلال سهراية شعرية لنفس المجموعة من تأليف أو إعداد الدكتورة نجاة علي استاذ الإلقاء بأكاديمية الفنون وجامعة عين شمس، وصاحبة النص المهم: »فن الإلقاء: بين النظرية والتطبيق« فيما قام الأستاذ هيثم الخميسي بالإعداد الموسيقي للعرض. والحقيقة أن ما شاهدناه من أداء متفوق لأولئك الشباب الرائعين لا يمكن حسبانه البتة علي عملية إعداد ذلك العرض بمفرده، ولكنه بناء تواصلت حلقاته في عمليات تصنيع الكادر طوال الدراسة، والتي شملت الغناء »دربهم عليه الأستاذ عماد الرشيدي«، والإلقاء »علمتهم أصوله نجاة علي« فضلا عن مهارتي الحركة والاستعراض اللتين دربهم عليهما الأستاذ ضياء شفيق والأستاذ محمد مصطفي، والسلوكيات »ودربتهم عليها شيري شلبي«، وأخيرا التمثيل والارتجال »ودربهم عليهما خالد جلال«. كنا أمام أربعة وسبعين فنانا شاملا في عرض بديع استدعي إلي قاعة العرض بعضا من قصائد أعظم الشعراء المصريين والعرب وعلي نحو آخر فرض تبادلية مدهشة بين المؤدين والناس مستدعيا الحاسة الجماهيرية عند المؤدي، ومستدعيا الحاسة المسرحية عند الجمهور، وملزما ذلك الجمهور بأن يصير شريكا في الإبداع يواصل الجملة ويستكمل النص! أصخنا السمع في تلك الحالة وعلي يد صانعها خالد جلال إلي الأستاذ أحمد فؤاد نجم في »مصر يامه« و»ياعم حمزة« و»حد ضامن يمشي آمن«، والأستاذ نجيب سرور في: »البحر بيضحك ليه« و»يا بني مصر«، والأستاذ فاروق جويدة في قصيدة »المنصب من مسرحية الوزير العاشق«، والأستاذ سيد حجاب في روائعه: »الأراجوز« و»الباقي هوه الشعب« و»يا عنكبوت«، والأستاذ فؤاد حداد في: »مافيش في الأغاني« و»حب الوطن«، والأستاذ صلاح جاهين في: »بالأحضان«، و»علي اسم مصر«، والأستاذ جمال بخيت في: »دين أبوهم« و»مش باقي مني« و»عم بطاطا«، والأستاذ نزار قباني في »الرسائل« والأستاذ عبدالرحمن الأبنودي في »الميدان«، والأستاذ محمد بغدادي »سكة سلامتك«. كنا أمام تنوع مدهش جدا بين الإلقاء الشعري المجرد أو المغني والمصحوب بخلفيات موسيقية ثاقبت معني اكتمال دقة الاختيار، أو بدقات دفوف ترافق الغناء أو الإلقاء. وكنا أمام خليط حركي عجيب يعتمد الفردية والحرية، والارتجال في إطار من الانضباط الجماعي الصارم!.. فأنت تشعر أن كل ولد أو بنت يعبر عن نفسه كيفما شاء تفاعلا مع النصوص الشعرية والغنائية، لا بل أنت تشعر أن الأولاد طبيعيون جدا حتي في حواراتهم الصامتة بين بعضهم البعض. ولكن التحليل النهائي للمشهد يبدو ميكانيكيا صارما يفرض علي الشباب أن يكون »تنوع« أداءاتهم في إطار من »وحدانية الإيقاع والتصور الكلي للمشهد«. ثم كنا أمام شيء من الكاريكاتير في عناصر الربط بين فقرات العرض، أو في سلوكيات الفنانين، وهو ما يطبع شغل د. خالد جلال بعلامته الإبداعية المسجلة، إذ إنه لا يستطيع أن يمنع تلامذته من التطبع بنفس خفة ظله وقدرته علي تخليق الفكاهة في مساحات ضيقة للغاية وعدم ترك الحبل علي الغارب فيها ليستحيل العرض مسخرة تتسم بالعشوائية، ولا يفضي إلي أثر مقصود تم تصميمه علي نحو سابق التجهيز. وأخيرا فقد كنا أمام استخدام بارع لجحافل عشرات الممثلين في فراغ قاعة ستوديو الممثل التي لا يتجاوز حجمها 51*03 متراً.. إذ عبر طغيان الصوت الجماعي، أو الإحاطة التي تصل إلي درجة التلامس مع المشاهدين، كان خالد يحقق إجبار المتفرجين علي المشاركة والتفاعل (يذكرني ذلك بعرض تجريبي أرجنتيني اسمه: »لاجوارديا« شاهدته في مسرح تشوك فارم شمال لندن عام 8991). لا أجامل ولا أبالغ حين أقول إن جميع الأولاد والبنات كانوا رائعين، ولكنني سجلت أسماء بعضهم من أصحاب الإجادات المتميزة، تأكيداً من أن في الإشادة بهم تحية لممثلي العرض علي الجملة، ومنهم المطربون. ماهر محمود وأشرف وليد ورباب ناجي ونجوي حمدي، والكوميديانات: علي ربيع ومحمد عبدالرحمن ومحمد أسامة، وعناصر التمثيل والإلقاء: شريف الخيام ومحمد رمضان ومحمد غيث ومحمد محمدي، ولبني عبدالعزيز ومحمد الغمراوي. ... ثم قبلهم جميعا صانع تلك الحالة المفعمة بالبهجة والحيوية والمحرضة علي التفكير والتغيير المخرج خالد جلال.