منذ أكثر من أسبوعين تعيش عاصمة النور باريس موجة من الاحتجاجات العنيفة، هي الأسوأ في تاريخ فرنسا الحديث. أحداث غريبة شهدها الشارع الفرنسي علي أثر الزيادات في الضرائب علي الوقود، أودت بحياة شخصين، كما أسفرت عن إصابة 650 آخرين وإلقاء القبض علي العشرات. أعادت تلك الأحداث إلي ذاكرتنا جميعًا في مصر والمنطقة العربية مشاهد ما سمي ب "الربيع العربي" من أحداث عنف وفوضي عارمة أسفرت عن سقوط دول وانهيار أخري ضمن مخطط شيطاني استهدف منطقتنا العربية، أعد منذ سنوات طوال علي يدي كونداليزا رايس تحت اسم "الشرق الأوسط الكبير" ونجت مصر من شروره بمعجزة إلهية. هل يمكننا أن نطلق علي ما يحدث الآن من تصعيد خطير في فرنسا من قبل أصحاب السترات الصفراء والحكومة "الخريف الفرنسي"؟ وهل سيوقف تراجع الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون تلك الموجة غير المسبوقة من العنف؟ نعم تراجعت الحكومة الفرنسية عن قراراتها بزيادة الضرائب، وأكد رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، أمام نواب حزب الأغلبية في البرلمان الفرنسي، تعليق تلك الزيادات بعد موجة الاحتجاجات التي هزت فرنسا، منذ السابع عشر من نوفمبر الماضي، وعرفت ب (احتجاجات ذوي السترات الصفراء)، في إشارة إلي قائدي السيارات الذين يرتدون تلك السترات بحكم القانون. وجاء قرار الحكومة الفرنسية، بعد اجتماع عقد يوم الإثنين 3 ديسمبر في قصر الإليزيه، برئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسط توقعات بأن يستمر التعليق لعدة اشهر، لتتلوه إجراءات حكومية أخري، تسعي لامتصاص الغضب الشعبي في الشارع الفرنسي. لكن رغم الإعلان عن التعليق، لا يبدو أن حركة السترات الصفراء، وهي حركة شعبية عفوية، خرجت للاحتجاج علي الزيادات الأخيرة قد رحبت بالخطوة، إذ أفادت الأنباء بإلغاء اجتماع كان مرتقبًا الثلاثاء، بين ممثلين عن الحركة ومسئولين حكوميين، في وقت دعت فيه أصوات داخل الحركة، إلي تكثيف الاحتجاجات السبت المقبل في موعدها الإسبوعي، في إشارة إلي نيتها عدم التفاوض مع الحكومة. بينما يعتبر بعض السائقين الضريبة الجديدة، جزءًا من استراتيجية الرئيس الفرنسي، ويتهمونه بعدم إدراك مدي الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية، يبرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قراره رفع أسعار الوقود، بارتفاع الأسعار العالمية للنفط في الفصول الثلاثة الماضية من العام الجاري، كما يقول وزير داخليته، إن التراجع في أسعار النفط العالمية في الفترة الحالية سيعوض زيادة الضريبة. تبدو الحكومة الفرنسية في تراجعها عن الزيادات الأخيرة، مدفوعة بحالة التوتر، التي سيطرت علي الشارع الفرنسي الذي يئن وفقا لأقوال الفرنسيين، تحت وطأة الضرائب المتزايدة وارتفاع الأسعار، كما أنها مدفوعة أيضا للتراجع بفعل ما خلفه أسبوعان من الاحتجاجات، من تأثيرات علي الاقتصاد الفرنسي. يطرح سلوك الحكومة الفرنسية، نموذجًا مهمًا في التصرف والتفاعل السياسي مع الأحداث، وكانت الاحتجاجات نفسها ومنذ تفجرها قد حظيت بتفاعل كبير من قبل المدونين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية. واهتمام من كافة دول العالم. فبينما اعتبرها قطاع كبير من الشباب، تثير الحنين إلي إيام ما عرف بالربيع العربي قبل أعوام، وأنها تقدم نموذجًا لتمرد مماثل في الشارع العربي، اعتبرها مؤيدون للأنظمة العربية، بمثابة نموذج سيئ يحمل نفس مواصفات ما عرف بالربيع العربي، ووجهوا انتقادات شديدة لعمليات تخريب الممتلكات والاعتداء علي رجال الشرطة. وقد حقق (السترات الصفراء) الذي تناول الاحتجاجات الفرنسية أعلي متابعة في مصر بعد إطلاقه مباشرة يوم السبت الماضي، وعقد المغردون من مصر والعالم العربي عبر هذا الهاشتاج، مقارنات بين الحالة الفرنسية وحالة عدة دول في العالم العربي، ولم يخل الأمر من تحويل المقارنات إلي نوع من الفكاهة من قبل رواد التواصل الاجتماعي المصريين. السؤال الآن: هل سيحل تراجع ماكرون والحكومة الفرنسية عن الزيادات الضريبية تلك الأزمة العنيفة التي يعيشها النظام في فرنسا؟ هل يدفع ذلك التراجع حركة السترات الصفراء إلي مزيد من الاحتجاج أم إلي الجلوس للتفاوض مع الحكومة؟ فلننتظر ونري!