أعرف الأسكندرية، وأكثر .. فأنا المولود فيها، هذا بحرها وهذه حواريها وأزقتها، هذه العطارين وكوم الدكة والأنفوشي والإبراهيمية والأزاريطة والنبي دانيال، محرم بك وباكوس وسيدي بشر وإستانلي، هذه ذكرياتي وهذه أيامي، هذه الأعياد وبدايات الأعوام، ... نواتها حين تشتد بمطر وعواصف وبرد، فناجين قهوتنا علي البحر في سبتمبر وسنانير الأحد تصطاد وأغنيات تأتي من خلف أبواب مغلقة كأنه سيد درويش مازال عاشقاً، ... لا تتغير الإسكندرية .. أعرف، ففي كل غياب تفاجئني علي عتبتها أنها مازالت سيدة البحر ولو كان في العينين حزن صامت أو مسحة زمن كان أجمل، هي بكل طيبتها وسماحتها، يرهقها زحام لاتحتمله بشوارعها الضيقة، لم ترفع لافتات تشجب وتمنع دخول الغرباء، كيف وهي المدينة التي عاشت عمرها تجعل من كل اللهجات والثقافات عصير حضاراتها، لاتنسي مدينة هذا بحرها .. تاريخها العميق من التسامح النبيل، .... لاتخلع ثوبها المنقوش بكل اللغات دليلا علي رقيها وتقدمها وعلمها الكبير، هذه إسكندريتي فكيف أجهلها، كيف ومازالت لاتغمض عينيها عن كل حضارات الدنيا، كيف يحاول البعض أن يشرح لي الإسكندرية بشكل مختلف عن نصف عمري الذي قضيته هناك، ونصف عمري الذي أذهب فيه مشتاقا لها أكاد أذوب في طرقها ونوافذها وكل شجرة عابرة بي، أعرفها.. ناسها هم أروع مافيها، أصحاب مزاج رائق ولو تعكر، فنانون ينسجون من البحر دائما عرائس ملونة تؤنس وحدتهم، إنهم جدعان ومثقفون وأولاد بلد يجرون علي أكل عيشهم بكد وصبر وهمة، متسامحون إلي حد البراءة، لايسألون أحد من أين جئت ولا في أي وقت يصلي، الكل يصلي، والجميع يرفع يديه لإله واحد، لكل البيوت سقف ترتفع منه الدعوات، الأحد إجازة والجمعة إجازة وللأعياد كلها طقوس فرحة، في كل يوم جمعة ساعة صلاة يغلق فيها المسيحي بابه إحتراما لحصيرة صلاة ممتدة من مسجد أمامه، وكل ماأذكره ومازلت أظنه أنه كانت هناك مناوشات لذيذة بين أبي وجارنا، بين مسلم ومسيحي، نكتة بطلها قسيس يرد عليها بنكتة بطلها شيخ تنتهي ببسملة معانا، طبق واحد وعشرة أصابع، إسكندرية لاتتغير ولو غيروها. هل تغيرت الإسكندرية حقا، إلي حد أنها لم تعد تشبه نفسها ؟ إسكندرية ياجدعان، مدينة بألف بلد، بنت نكتة وبنت أصول وبنت ناس وبنت علم، فكيف تفقد ذاتها الجميلة وتصبح كأن لا ماضي عظيم لها، كيف تتحول إلي مدينة عادية أو عابرة، مزدحمة بعشوائية متخبطة بأفكار لم تكن أبدا لها، إسكندرية التي لو عادت.. عدنا، لو إستجمعت شجاعتها وواجهت كل فكرة سوداء تسرق حاضرها وحضارتها، تسرق شمسها التي نري بها الحياة، تسرق الأحلام التي كانت دوما تتمشي علي حافة البحر معلنة أن زمن الإسكندرية هو زمن الحضارة وزمن النور، من هنا يجب أن نبدأ عشاق هذه المدينة وسكانها ومواطنيها ودراويشها، فنعيدها مدينة موحية بكل خطوط كفها ووجهها وشوارعها ومقاهيها. هذه إسكندريتي التي يلخبطون حروفها ويشخبطون علي حاضرها من أجل أن تصبح خبر كاذب في نشرات الأخبار. من يبدأ معي.. لنستعيدها.