صفقت الباب في عصبية بادية، لكنه تمالك نفسه وسألها: رايحة فين؟، قالت : أف، إنتوا مابتتغيروش! نفس العُقدة الذكورية رايحة فين؟ جاية منين؟ بتدخلوا في كل شيء، تحشروا مناخيركوا في طريقة لبسنا وفي طريقة مشيتنا وكأننا أدوات بتمتلكوها كفاياكم تحكم. الرجولة مش كده. سيبونا في حالنا. إدونا حرّيتنا. خلونا نعيش حياتنا، بادرها: بلاش تطلعي عقدك علي أهلي وقولي رايحة فين، قالتله: طب والله ما أنا قايلة، رد عليها: طب إنزلي من التاكسي يا مدام أنا مش ناقص جنان علي الصبح. وهنا انتهت النكتة المضحكة المؤلمة. جاءت لكأنها »ماستر سين» في فيلم الحياة المراوغ الذي صنعناه حولنا. المفارقة في النكتة هي ما يضحكنا، لكنه أحياناً ما يكون ضحكا كالبكا، فهنا لم تكن النكتة سخرية من السلطة كما اعتدنا، ولم تكن نقداً للحكومة ولا تعرية لمساوئ مجتمع ظالم وأفراد مسحوقين، بل استحالت النكتة هنا تعبيراً عن أزمة التحقق وشعور الانسحاق والرغبة في التحرر والبحث عن عدالة ضائعة شعرت معها السيدة بأنها تكاد تفقد ذاتها فراحت تنفجر في أول رجل يقابلها، وعجل هو بالصدام حين كرر علي مسامعها سؤالا رهن حياتها وقيد حريتها حتي في أبسط الأشياء الخاصة كما يبدو. بدت السيدة كأن لم تكن تعيش اللحظة، إنما كانت لاتزال في ديالوج داخلي ملك عليها خيالها، كانت لاتزال مسكونة بحالة الشجار والصراع مع الزوج أو الطرف الآخر القاهر لحياتها، ولعل هذا السؤال نفسه: رايحة فين؟ كان السبب وراء عصبيتها وهي تصفق باب التاكسي، ولعلها قطعت المسافة من باب البيت المحتمل أن تكون صفقته أيضاً إلي باب السيارة وهي غائبة عن الوعي كما السائرين نياماً، تدير في ذهنها هذا الحوار الذي انفجرت به في غير مكانه ولا موضعه، وأمام من لم يكن طرفاً في الصراع مباشراً اللهم إلا أنه من نفس »الجندر» أي رجل، وهنا بالنسبة لها فأي رجل مدان حتي تثبت براءته. فالسلطة في مخيلتها رجل والحكومة رجل والمحافظ رجل ومجلس النواب رجل والكناس رجل والمتحرش رجل والبائع رجل والزوج المتحكم القاهر رجل، فمن أين الفرار من كل أولئك الرجال الذين استحالوا ضباعاً لا تنجو منهم حتي ولو أمهلوها للفرار. هل حملت الأمر أكثر مما يحتمل؟ بالطبع لا، ودليلي النكتة الملهمة الموجعة نفسها. ماذا تعني هذه النكتة أيضاً؟ تعني بشكل مباشر أن الحياة استحالت أمامنا أو لنقل أمام البعض منا وهو بعض كثير إلي عملية آلية ربما تشكل »تشين ريآكشن - أي تفاعل متسلسل - وآسف لكتابتها بالعربية لتفادي الأخطاء المطبعية»، فهذه السيدة مثال للمرأة العصرية، أقصد امرأة هذا العصر وسواء كانت متعلمة أو غير متعلمة، عاملة أو سيدة منزل، معيلة أو غير معيلة، فهي نهب لحياة صعبة تسلمها فيها ضائقة لمشكلة لأزمة لتناقض ليأس لخوف، وكما إنسان عصرنا هذا فالكل نهب للخوف، مما هو قائم ومما هو قادم ومما هو بين بين. ولم تعد المرأة وحدها في هذا التفاعل المتسلسل بل جميعنا عرضة وضحايا له، وأحسب أنها لم تعد ظاهرة محلية، فلعلها ظاهرة عالمية يعيش فيها الإنسان مرحلة آلية غريبة في عالم اللايقين، إنسان تحاصره الآلية »الأتمتة» في كل مكان، الصراف الآلي والبريد الآلي والإنترنت الآلي والمحمول الآلي والمجتمع الافتراضي الآلي في منصات »التواصل الاجتماعي» التي استحالت إلي »الانقطاع الاجتماعي» فقد أصبحت الأسرة مجرد أفراد يجمعهم بيت كل منهم لا يقيم حواراً أو تفاعلاً مع الآخر إلا علي موبايله وأصدقائه الافتراضيين في المجتمع الآلي. بهذا تحولت الحياة الأسرية والمشاعر الإنسانية إلي عمليات آلية صامتة تشكلها »الشفاهة الإلكترونية أو الآلية» بينما كان الفارق في تأسيس المجتمعات هو »الشفاهة الاجتماعية» الحديث والحوار والحكايات ورومانسية اللقاء واللمة والتفاعل الحي في السمر والأعياد والاحتفالات وحتي في العزاء. باختصار فقد استغنينا عن »الجميل أو الجمال» في حياتنا، واكتفينا بالنافع فقط، وهنا اختلت المعادلة الاجتماعية التي عاشت دائماً مشاركة ما بين النافع والجميل. ومن هنا تم تزييف حياتنا ومؤسساتنا وأصبح القبح مكونا طبيعيا يصافح أعيننا صباح مساء فاستحالت حدائقنا العامة أكواماً من القمامة اعتادها البصر وتعايش معها البشر، فكيف بالله عليكم لهذه السيدة ألا تنفجر وهي التي بطبيعة خلق الله لها أكثر رومانسية وحساسية وشعوراً بالجمال من نصفها الآخر، وكيف وهي تري صورتها في الدراما المريضة في إعلامنا الغبي مجرد سلعة علقوها لحماً أبيض كما في سلخانات اللحم الأحمر الذي استحال عليها أن تشتريه وتعده لأسرتها حتي في عيد الأضحي، انفجري يا سيدتي لكن في النكتة فقط، ثم فكري كيف يكون مفر من ضباع الحياة.. ولو أمهلوكِ. عيد سعيد.