ورحل اليخت »المحروسة» من الاسكندرية، مع غروب شمس 26 يوليو 1952، حاملا علي متنه فاروق الأول و»الأخير» ملك مصر، وبعض أفراد عائلته، وحقائب تضم مقتنياته الشخصية، وقال اعضاء مجلس قيادة الثورة، انها كنوز مصر التي سرقها، واطلقت المدفعية 21 طلقة، تكريما للملك أو ابتهاجا بالرحيل. كان بوسع ملك مصر أن يعاند ويكابر ويتمسك بالعرش، ويردد أنه »الملك الشرعي» وكان في مقدوره أن يأمر قوات الحرس الملكي والقوات البحرية بالتصدي للثوار، لكنه لم يفعل ذلك حفاظا علي جيش مصر، وحتي لا تراق نقطة دماء واحدة، ورسخت العسكرية المصرية ثوابتها العريقة، بأن جيش مصر لن يعمل إلا لخدمة شعب مصر. محمد نجيب القائد الذي احبه الشعب وغدر به الثوار، هو الذي ذهب للمك فاروق في فجر يوم الرحيل، بعد أن حاصر الجيش القصور الملكية وقصر رأس التين وطلب الجيش من رئيس الوزراء في ذلك الوقت علي ماهر باشا، أن يحمل الانذار للملك فاروق بالرحيل، واذعن الملك، وطلب الخروج من مصر بحرا علي يخته المحروسة، واصطحاب زوجته وولي عهده وبناته. قبل الرحيل طلب الملك فاروق أن تحفظ كرامته في وثيقة التنازل عن العرش، وكتب فيها »نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان، كما كنا نتطلب الخير دائما لامتنا ونبتغي سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف، ونزولا علي إرادة الشعب، قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الأمير أحمد فؤاد، واصدرنا أمرنا بهذا إلي صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه». ذهب محمد نجيب إلي الملك واستقل زورقا اوصله إلي يخت المحروسة، وادي التحية العسكرية للملك السابق، وقال له »لقد وقف الجيش معك عندما حاصر الانجليز قصرك بالدبابات عام 1942 ليعينوا النحاس باشا رئيسا للوزراء، لان الشعب كان يرفض الانجليز، والان يقف الجيش ضدك لان الشعب لا يريدك فرد الملك بعبارته التاريخية الشهيرة »ليس من السهل حكم مصر». في اللقاء الاخير بين نجيب وفاروق، كان يصحبه عضو مجلس قيادة الثورة جمال سالم، المعروف بعدائه للملك، ولاحظ فاروق انه يحمل عصاه فأمره بإلقائها، وحين اظهر جمال سالم شيئا من الرفض، كرر أمره فانصاع، احتراما للتقاليد العسكرية. صحيح أن الثورة تجنت علي فاروق وظلمت محمد نجيب، ولكنها ظلت بيضاء، ولم ترق قطرة دماء، وتسلحت بالروح المصرية التي ترفض العنف والاغتيالات، ولم ترفع سلاحا إلا في وجه من تآمروا علي الشعب وهددوا حياته، وامنه وممتلكاته.. وهذا هو سر العداء بين الثورة والاخوان. فاروق رحل عن العرش حتي لاتراق قطرة دماء، والاخوان أرادوا العرش ولو فوق بحور من الدماء.. فاروق تأكد من أن حكم مصر ليس سهلا.. والاخوان تصوروا انها لقمة طرية يمكن التهامها، فوقفت في ذورهم واصابتهم بالاختناق، لانهم لم يفهموا أن قوة مصر في سلميتها الحقيقية، وليس في سلميتهم المسلحة بالخرطوش والمولوتوف. فاروق الذي تمتد شرعية ملكه لجده محمد علي، أدرك أن شرعية مصر تجب كل الشرعيات، والاخوان تخيلوا أن شرعيتهم فوق شرعية مصر، رغم أن حكمهم لم يمتد أكثر من عام، ورغم أن الصندوق الذي جاءوا به، كان مجرد وسيلة صورية، تبرر الغايات الاجرامية غير المشروعة. فاروق أدرك أن الجيش هو رمانة الميزان والمدافع عن الشعب وأمن البلاد واستقرارها، والاخوان ارادوا الانقضاض علي الجيش منذ اللحظة الأولي. واستعظموا قوتهم واستعرضوا عضلاتهم، وتجبروا وتسلطوا، ونصبوا أنفسهم فوق الشعب والدولة والقانون، ولم يفهموا كعادتهم الشعار المحفور في ذاكرة الوطن »جيش مصر لن ينحاز إلا لشعب مصر».