الأمر أكبر من محاكمة مهما كان المتهمون وكبرت التهم. من هذه القاعة يمكن أن تبدأ أولي خطوات مصر الجديدة. والقدرة علي تنظيم المحاكمة وظهورها عاكسة حضارة مصر وروحها ستؤكد للمصريين أنها فرصة ليؤكدوا للبشرية أنهم أحفاد من أهدوا الدنيا فجر الضمير ومن بدأت العدالة علي أرضهم ومن بلادهم وصلت للدنيا. المهم والجوهري في المحاكمة هو كيف نجعل من لحظة دخول مبارك القفص أساساً لبناء مصر الجديدة. وكيف نخرج من عنق الزجاجة الذي يعاني منه الوطن الآن؟ هذا ليس سهلاً ولكنه أيضاً ليس مستحيلاً. قيمة المحاكمة الكبري أن القانون يمكن أن يكون أساس الحكم والملك في مستقبلنا. وأنه لا أحد فوق المساءلة والقانون. والعدل كان من أشواق المصريين منذ فجر التاريخ ومطلبهم الأساسي. وعندما يكون العدل أساس الملك. فهذا يعني أنها لا بد أن تكون دولة مدنية. وضع تحت كلمة مدنية ما شئت من الخطوط. علي أن المشهد خارج قاعة المحكمة لا يقل أهمية عنه داخلها. فلو أن دارساً توقف أمام حال الدراما الرمضانية قبل المحاكمة وبعدها. سيكتشف انصراف الناس عن الدراما لمشاهدة المحاكمات. ولولا مهلة الأسبوعين التي فصلت بين الجلسة الأولي والثانية لبارت الدراما علي أصحابها هذا. لأن ما رأوه في المحكمة يفوق خيال المؤلفين وإمكانات الممثلين وقدرة المؤثرات البصرية والصوتية. لأنه لم تعد مباريات الكرة ولا مسلسل رأفت الهجان ولا ليالي الحلمية قادرة وحدها علي ترك شوارع مصر خالية. ولا علي ذهاب من لا يملكون تليفزيونات للمقاهي للفرجة علي التليفزيون حتي لو كانت الفرجة بالمشروب. سؤالي هو وانا أشاهد قاعة المحكمة: كيف فات شركات الدعاية والإعلان ترك جدران وأسقف وأبواب ونوافذ قاعة المحاكمة خالية من أي إعلان؟ إنها شهادة فشل لهم. ولو سمح لهم بذلك في الجلسات القادمة لرأينا العجب العجاب. لكني أقول إن أقدار الأوطان لا تعرض في المزاد. حتي لو دفعوا مال قارون. فقاعة المحكمة التي سيتقرر منها مصير مستقبل مصر يجب ألا تلوثها أية إعلانات. حتي البورصة تراجع التعامل فيها بصورة لم تحدث من قبل خلال ساعات المحاكمة الخمس. والذين قالوا إنها المرة الأولي علي مدي سبعة آلاف سنة. حيث يحاكم المصريون فرعونهم. كانت تنقصهم الدقة التاريخية. فقد سبق أن حوكم عمرو بن العاص. ولكنه أخذ إلي الجزيرة العربية ليحاكم هناك. وكانت التهمة أن ابنه ضرب مصرياً لأنه سبقه في سباق كانا يشتركان فيه. هل لاحظتم الفارق بين جنحة الأمس البعيد وجنايات اليوم؟ تساءلت ماذا قال مبارك لنجله عندما همس في أذنه بكلام. ثم انتقل الابن إلي حيث حبيب العادلي وجلس معه فترة من الوقت وعاد لينقل ما سمعه هناك. ماذا كانت الرسالة؟ وماذا كان الرد؟ لا تعلنوا عن الدواء الذي تعاطاه مبارك قبل الجلسة. لأنه في حالة معرفته سيضرب الأرقام القياسية في التوزيع والإقبال عليه لن يقتصر علي المصريين ولا العرب ولا المسلمين. ولكنه سيمتد إلي العالم كله. لأن هذا الدواء الذي لا نعرفه يقيم مسافة بين من يتعاطاه ومن حوله. لا يدرك ما يجري جيداً. إنه دواء البلادة الكبري. "الذين ليسوا هم" يمكن إطلاق هذا العنوان علي محاكمة العصر بعد الكلام الخطير الذي قاله الدكتور حامد صديق. أستاذ الجيولوجيا بالمركز القومي للبحوث بعد أن امتهن المحاماة من 2003 بعد حصوله علي ليسانس حقوق. قال الرجل إن الجالس في القفص ليس حسني مبارك وأن مبارك مات وشبع موتاً منذ 2004. وكشف عن أن بصمات المتهمين ليست موجودة في سجلات القضية وأن الماثل في القفص شبيه بمبارك. إن الجري وراء هذا الافتراض قد يعني الكثير. ومن المؤكد أن هذا المحامي قد حاول في شبابه أن يكتب روايات بوليسية. وعندما فشل في هذا اتجه للجيولوجيا ثم تركها إلي ساحات المحاكم. من الذي صبغ له شعره صباحاً؟ ومن الذي حلق له ذقنه؟ أين الاكتئاب؟ أين الوهن الضعف الذي قيل كثيراً جداً في الفترة الأخيرة؟ هل كان الهدف إحداث حالة من التعاطف معه؟ أم محاولة إجهاض المحاكمة قبل أن تتم؟ عموماً سيكتب هذا الكلام الدكتور ياسر صلاح عبد القادر الطبيب المرافق لمبارك وأستاذ الأورام الذي كان مرافقاً للفنان أحمد زكي في أيامه الأخيرة. في كوارث العائلات الكبري ثمة شخص يقود عائلته للكارثة. ولأن العائلة لا تتعلم من العبر والدروس. فجمال الشاب الذي قتله طموحه. مازال هو المايسترو الذي يقود الأب والأخ الأكبر. كيف نصدق إذن الفولكلور الذي قيل في اللحظات الأخيرة في قصر العروبة قبل الرحيل إلي شرم الشيخ عندما سمعنا أن علاء اشتبك مع جمال في قصر العروبة واتهمه أنه كان السبب في كل ما جري لهم. في القفص كان جمال الآمر الناهي. وعندما فكر مبارك الأب في الاستطراد عندما رد علي سؤال القاضي الثاني خطف جمال منه - وعلي الهواء مباشرة - الميكروفون ومنعه من الاسترسال. ليس لأن الابن يعرف المصلحة أكثر من الأب. لكنها شهوة التسلط والرغبة في السيطرة. هذا علي الرغم من النهاية التي تنتظر الجميع. طوال الساعات الخمس كانت المقارنة بين صدام حسين في قفص بغداد المحتلة بالأمريكان والمهددة بانقسام مذهبي رهيب. وبين قفص القاهرةالجديدة. أما المقارنة بين الرجلين وسلوكهما وطريقة تصرفهما فتلك حكاية أخري. ما كان نجيب محفوظ يتصور عندما أطلق اسم القاهرةالجديدة علي روايته التي كانت الصيحة الأخيرة في مصر الملكية قبل ثورة يوليو. أن المدينة التي اسمها القاهرةالجديدة ستنطلق منها صيحة نهاية عصر وبداية عصر جديد يهل علي مصر. عنوان هذا المقال كان عنواناً لمحاضرة للأستاذ هيكل. كانت من أواخر محاضراته في معرض القاهرة الدولي للكتاب قبل منعه من إلقاء محاضرات في المعرض والالتقاء بالآلاف وربما الملايين من عشاقه ومحبيه. وقد صدرت المحاضرة في كتيب صغير عن دار الشروق. ولأن الأستاذ هيكل خارج البلاد في أجازته السنوية. لذلك كان لا بد من رد غيبته وإعادة العنوان لصاحبه الأصلي. لذا لزم التنويه.