أعتبر أن أهم واجب يتحتم علي مثلي من الكتاب النهوض به، في ظل هذه الظروف التاريخية التي تمر بها مصر، هو السعي بكل ما لديه من طاقة للتأريخ لثورة 25 يناير، وتوثيق أحداثها الحقيقية والإتيان بالشهادات الحية من أفواه الشباب الذين صنعوها، وهم يؤمنون بأنهم يهبون أرواحهم ثمناً لتحرير وطنهم واسترداد ذواتهم. لذا فأنا أصل الليل بالنهار لألتقي بالشعراء والفنانين الذين أطلقوا الصيحات، وأنشدوا الشعارات ورسموا اللوحات المعبرة عن الغضبة والرغبة في استرداد كرامة كل مصري. واليوم، أقدم لكم طبيباً وشاعراً عبقرياً من الشرقية.. الدكتور إبراهيم العوضي، الذي يرجع إليه الفضل في تأجيج الغضبة وإشعال الثورة في ميدان التحرير وفي الزقازيق أيضاً. وهذه ومضات من تجربته: "خرجت بسيارتي من قريتي التي تبعد عن الزقازيق حوالي 25 كيلومتراً مصطحباً أخي الأصغر وثلاثة من إخواني، العجيب أن أمي التي لطالما عارضتني في إشراك أخي الأصغر "أولي طب" في النشاط السياسي لم تعارض هذه المرة، بل بادرتنا قائلة: "اذهبا فلستما أفضل من الشباب الذين سحقهم مبارك بالأمس". في هذه اللحظة شعرت بأن الأمر يختلف لتبدأ الرحلة إلي الزقازيق من طريق خلفي بعد أن علمنا أن الأمن يغلق الطريق الرئيسي، وأنه ينتظرنا بألوف من الجنود وعشرات المدرعات والقنابل، وهنا دب في نفسي نوع من الخوف فأخذت أردد بصوت عال ويردد الرفاق معي: سأحمل روحي علي راحتي وألقي بها في مهاوي الردي فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا ظللت أردد البيتين إلي أن ثبتني الله وأقسم إنني وصلت الزقازيق يستوي لدي الموت والحياة، صلينا الجمعة في المسجد المحدد وأخذ خطيب الجمعة يردح علي منبره عن طاعة أولي الأمر وحرمة التظاهر وحرمة الخروج علي الحاكم العادل حسني مبارك، المهم انتهت الخطبة المملة وانتهت الصلاة ليبادرنا علي باب المسجد ضابط يتوعد ويهدد أن أي ابن أنثي منا يرفع صوته فهو معه الأمر بالقتل المباشر لم نعره اهتماماً، لتخرج الآلاف المؤلفة من هذا المسجد والمساجد المجاورة ولأول مرة رغم اشتراكي في عشرات المظاهرات من قبل يعطر الله لساني حين هتفنا جميعاً: "ياجمال قول لأبوك شعب مصر بيكرهوك والشعب يريد اسقاط النظام".. وبدأ الزحف من المتظاهرين يقابله زحف مقابل من الشرطة وبدأ الغضب، وراحت رواسب ثلاثين سنة تكسر قضبان الضلوع لينفجر المصريون أخيراً في وجه جلاديهم. هنا صدرت الأوامر للضباط والجنود بالاشتباك معنا، فاعتصمنا بالله وتشابكت أيدينا في ظلال من الرعب فشرعنا نهتف سلمية سلمية، وحاولنا استدرار عطفهم فهتفنا: "يابو دبورة ونسر وكاب إحنا اخواتك.. مش إرهاب". ولكن هيهات فلو كنت تخاطب الصخر لخضع وحن للدم والرحم الذي تذكره به، ولكنها قلوب ميتة رأيتهم بأم عيني والقسوة والجبروت في عيونهم لحظة تنفيذ الأوامر، وراحو يطيحون بهراواتهم فوق رؤوس طيبة لم تحمل إلا الخير لهم ولغيرهم، وبدأت شلالات الدم المصري الطاهر تنفجر كالنوافير من الرؤوس لتخضب تراب مصر التي يبدو أنها كانت مشتاقة لطعم دمنا حتي تثق حقاً في أننا لها فداء. . في هذه اللحظات زاد اعتصامنا بالله وتسامينا فوق الجراح، وانكسرت كل الخطوط الحمراء لنهتف يسقط حسني مبارك. حينما رأي المجرمون هذا الثبات حدثت لهم صدمة، فقد تعودوا أن الوحشية دائماً هي الحل للقضاء علي أي احتجاج، ولكن هذه المرة بدا الأمر وكأن الأرض انشقت عن مصريين جدد، فرأيت الكل، وبغير ترتيب، يجمع علي أحد أمرين إما الموت، أو الحياة علي أرض لا يحكمها نظام مبارك، وهنا بدأ المجرمون في التعامل بكل صور العنف وأخذوا يمطرونا بالقنابل من كل اتجاه، وبالفعل بدأ البعض يتساقط من الاختناق. "الجيش والشعب يد واحدة".. بهذا الهتاف التلقائي ذهبنا نستقبل رجال الجيش المصري الباسل حينما انتشر في كل مدن مصر وركب الشعب علي الدبابة، وقبّلنا رؤوس الضباط والجنود وأحذيتهمے، واستشعرنا فيهم المنقذ، وأقسم بأنني لم يساورني الشك لحظة واحدة في أن الجيش سيغدر بنا، وازداد هذا الشعور حينما طلبنا منهم السماح لنا بالتقاط الصور إلي جانبهم علي الدبابة.. فرحبوا، ولا أنسي صديقي الشيخ عماد البيطار بخفة ظله وهو يداعب جندياً علي دبابته قائلاً للجندي: "ياجيش ياجيش ممكن أتصور علي الدبابة؟"، فوقع الجندي من الضحك وقال له: "تفضل"، فالتقط عماد الصورة ثم قال للجندي مرة أخري: "ياجيش ياجيش ممكن تعطيني هذا السلاح أتصور به"، فضحك الجندي وقال له مبتسماً: "لأ.. كده بقي.. ماينفعش!". ونواصل اعترافات الثائر الدكتور إبراهيم العوضي الاسبوع القادم.