قبل أن يحلف اليمين ليتولي منصبه رسمياً بعدة ساعات قال وزير الخارجية الجديد محمد العرابي، أمام عدد من الأصدقاء إن ما سيحكم تصريحاته وتصرفاته ومواقفه هو مصلحة مصر.. مصلحتها الاقتصادية والسياسية ومصلحة أمنها الوطني.. وأضاف الوزير الذي وصفته صحيفة ألمانية شهيرة بأنه مفاوض صعب ودبلوماسي قدير بأن إدارة السياسة الخارجية المصرية اليوم بعد 52 يناير تجد دعماً داخلياً يتعين استثماره، وهو عازم علي ذلك.. أو عازم علي أن يجعل الرأي العام المصري سنداً له في عمله. لذلك.. سوف يجد وزير خارجيتنا الجديد، الذي فوجئ بترشيح المجلس الأعلي للقوات المسلحة له في هذا الموقع المهم، نفسه مضطراً لإجراء مراجعات ضرورية لعدد من علاقاتنا الخارجية، يأتي في مقدمتها علاقاتنا مع القوة الأكبر والأهم في العالم الآن وحتي إشعار آخر، وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأن مصلحة مصر تقتضي ذلك، ولأن الرأي العام الذي سيجعله الوزير سنده في عمله يطالب بذلك أيضاً.. وعلي رأس القضايا والموضوعات الخاصة بعلاقتنا مع الولاياتالمتحدة تأتي قضية المساعدات الأمريكية لمصر. إن هناك أسباباً ملحة قديمة وتراكمات عبر سنوات حصولنا علي هذه باتت تفرض عليناً أن نتخلص من هذه المساعدات وفوراً، من بينها أن المستفيد الأكبر من هذه المساعدات لسنا نحن وإنما الأمريكان، وهذا ما أكده أحد الرؤساء الأمريكيين السابقين حين قال إن أمريكا تسترد من كل دولار تقدمه مساعدات لمصر 09 سنتاً كاملة.. فضلاً عن أن هذه المساعدات بعد الاتفاق علي تخفيضها تقلصت حتي صارت لا تتجاوز مبلغاً ضئيلاً »002 مليون دولار« تمثل نسبة هزيلة من مواردنا من النقد الأجنبي. لكن الأهم، والأخطر أنه أضيفت أسباب جديدة بعد ثورة 52 يناير تجعل تخلصنا من هذه المساعدات ضرورة ملحة.. فقد صارت هيئة المساعدات الأمريكية تستخدم هذا المبلغ المتواضع للمساعدات وسيلة للتدخل في شئوننا الداخلية بشكل علني وسافر.. بل وتصر علي ذلك رغم اعتراضات الوزيرة فايزة أبو النجا التي سبق أن حذرت السفيرة الأمريكية سكوبي في رسالة شديدة اللهجة من تجاوزات الهيئة وتجاهلها الحكومة المصرية وتعاملها مع مصر وكأنه لا يوجد بها دولة.. وبدلاً من أن تتوقف هيئة المساعدات الأمريكية عن هذا الأسلوب المرفوض فإن السفيرة سكوبي أرسلت إلي وزيرتها هيلاري كلينتون تحذرها من الوزيرة فايزة أبو النجا وتصفها بأنها معادية لنمو العلاقات المصرية الأمريكية.. وهذا ما فوجئت به الوزيرة المصرية ذات الحس الوطني الرفيع عندما ذهبت قبل شهور إلي نيويورك لحضور الاجتماعات السنوية للبنك والصندوق الدوليين.. لكن وزيرتنا وجدتها فرصة لتقول للأمريكان إن العلاقات مع أمريكا لن تستقيم إلا إذا تم الحرص علي مراعاة مبدأ المصالح المشتركة للبلدين، وأن المساعدات الاقتصادية الأمريكية لمصر لا تحقق الآن هذا المبدأ. غير أن الأمريكان استمعوا فقط للوزيرة بينما استمروا في ذات النهج القديم.. نهج استخدام المعونة كوسيلة للتدخل في شئوننا الداخلية.. وقد كشفت عن ذلك مؤخراً السفيرة الجديدة المرشحة لتمثيل أمريكا في مصر بدلاً من السفيرة سكوبي.. لقد قالت السفيرة »آن باترسون« في الكونجرس إن حكومتها أنفقت منذ 52 يناير نحو 04 مليون دولار علي الديمقراطية في مصر، وأن هناك نحو 006 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي منح مالية في إطار مبلغ المساعدات لهذا العام الذي تم إعاد هيكلته! كل ذلك تم من وراء حكومة مصر.. حكومة الثورة التي نفاخر بأن رئيسها هو اختيار الشعب، حتي وإن كنا لا نرضي علي بعض وزرائها ونطالب باستبدالهم بآخرين. لا أحد يعرف غير الأمريكان وحدهم كيف أنفق هذا المبلغ »04 مليون دولار«.. ومن استفاد به.. وفي أي شيء استخدمت هذه الأموال.. لا توجد جهة في مصر تعرف شيئاً عن هذه الأموال التي أنفقت أو عن الأموال التي ستنفق.. ثم ما معني أنها أنفقت علي الديمقراطية في مصر؟!.. وكيف يستبيح الأمريكان لأنفسهم تحديد أغراض الإنفاق »الديمقراطية والأخري غير الديمقراطية«؟!!.. وهل يدخل في هذا الإطار تمويل هذا السيل الجارف من الدعوات للسفر إلي الخارج لعدد كبير من الوفود شبابية وغير شبابية؟.. أم أن بعض هذه الأموال يمكن استخدامها في تمويل الدعاية الانتخابية أو حتي السياسية لبعض المحظوظين الذين كان لهم نصيب من هذا المبلغ البالغ 04 مليون دولار في غضون أقل من خمسة أشهر فقط. إن مصر دولة مستقلة وبلد له سيادة.. ويتعين علي الجميع بمن فيهم أمريكا احترام هذا الاستقلال وهذه السيادة.. وما فعلته واشنطن معنا في موضوع المساعدات الاقتصادية يتناقض مع هذا الاحترام، بل يمنحها فرصة للتغلغل في مجتمعنا وإقامة شبكة مصالح مع جماعات وبعثات ومنظمات بل وحتي أفراد، تمكنها من التأثير في مواقفهم السياسية ورؤاهم الفكرية.. وأضعف الإيمان تمكنها من الحصول علي كل المعلومات الطازجة والتفصيلية حول ما يدور في بلادنا.. ثم إننا بصراحة شديدة ووضوح تام لا نصدق أن أمريكا حريصة علي أن نظفر بالديمقراطية في بلدنا، أو أن يصبح هذا البلد ديمقراطياً. دعنا من كل هذا الصخب الأمريكي حول رغبتها في أن تصبح مصر ديمقراطية أو أن تحقق ثورتها الديمقراطية.. لأن تاريخ الأمريكان في هذا الصدد مخيب للآمال ويتناقض مع هذه الادعاءات.. ولعلنا نتذكر أن أول مهمة كلفت بها المخابرات المركزية الأمريكية بعد إنشائها كانت مهمة التدخل في الانتخابات الإيطالية عام 8491 لتمكين الحزب الديمقراطي المسيحي للفوز بالأغلبية البرلمانية ليشكل الحكومة.. وفي سبيل ذلك أنفقت المخابرات الأمريكية بسخاء، والأخطر تعاونت مع المافيا الإيطالية، رغم أن الديمقراطية لا تعرف المافيا! إن الديمقراطية سوف تمكن مصر أن تكون قوية وقادرة.. وهذا أمر لا تريده أمريكا حتي وإن أقسمت بأغلظ الإيمان لنا علي عكسه.. وإلا لماذا هي تضمن حتي الآن أن تفوق قوة إسرائيل ليس قوة مصر وحدها عسكرياً إنما كل البلاد العربية.. لذلك كله فلتكن البداية لمراجعة علاقات مصر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية هو الاستغناء عن المعونات الاقتصادية، التي تستثمرها أمريكا للتدخل في شئوننا الداخلية.. لقد قال لي وزير خارجيتنا الجديد إنه يفكر في أن يطرح علي الأمريكان إلغاء هذه المساعدات، خاصة بعد أن صارت متواضعة، أو إضافتها إلي المعونات العسكرية.. ومن قبل طلبت الوزيرة فايزة أبو النجا ذلك فعلاً من الأمريكان، لكنها اقترحت تحويل هذه المساعدات إلي ما يشبه الوقف والإنفاق من عائده علي تمويل استثمارات مصرية.. لكن واشنطن لم تقبل ذلك حتي الآن.. وقد حان الوقت ليضع وزير الخارجية يده في يد وزيرة التعاون الدولي ليواجها معاً واشنطن بطلب مصر إلغاء المساعدات الاقتصادية.. وإذا حدث ذلك سنحمل وزير خارجيتنا علي الأعناق ونهتف باسمه في »ميدان التحرير«.