هكذا خاطب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الجمع الكبير من المسئولين العرب والمسلمين، في المؤتمر الهام الذي دعا اليه الأزهر الشريف، وشيخه الجليل الامام الأكبر احمد الطيب لنصرة القدس، ردا علي قرار الرئيس الامريكي رونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده اليها، خلال الأشهر الماضية، الخطاب تضمن تفاصيل كثيرة، وكشف مواقف عديدة، وتعبيرا صريحا وواضحا عن رفض القرار، وإشارات بانتهاء الدور الامريكي لعملية السلام مع اسرائيل، والبحث في رعاية اخري قد تكون دولية، علي نمط ما حدث في معالجة الملف النووي الإيراني. وحقيقة الامر اجد نفسي أمام مشاعر متناقضة تجاه مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس في معالجته للازمة غير المسبوقة وتوابع القرار الامريكي تجاه القدس، ما بين الاقتناع بكل ما يتخذه، علي أساس القاعدة الشهيرة التي تقول ان "السياسة هي فن الممكن" وليس سعيا للمستحيل، وان الاوضاع لا تحتمل قرارات عنترية، دون دراسة متأنية، فالشعب الفلسطيني هو في النهاية من سيدفع ثمنها، وبين توجه مخالف يحمل كثيرا من المنطق، يقول ان مرور كل السنوات والتطورات علي صعيد اتفاق أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية في أوائل التسعينيات، وكل تلك الاتفاقيات والمباحثات الذي عقدها الطرفان الاسرائيلي والفلسطيني برعاية أمريكية، وكلها أوصلتنا إلي ذلك المسار المسدود، الذي لا نجد فيه ضوءا في نهاية النفق، فان علي محمود عباس والسلطة الفلسطينية ان تقول "كفي" عبثا ومماطلة، واستمرار المخطط الاسرائيلي لفرض الامر الواقع، وان علي السلطة ان تفكر »خارج الصندوق»، وتتخذ من المواقف والقرارات ما يتناسب مع مرحلة جديدة من مراحل هذا الصراع الطويل. يدرك محمود عباس انه يتعامل مع مشهد غاية في التعقيد، يتضمن في تفاصيله مواجهة مع عدو شرس "اسرائيل"، والتي تعمل حكومتها علي تنفيذ مشروع استيطاني، لا يعترف بأي حقوق للفلسطينين، ويقاوم أي مسعي لإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، ويتمتع بدعم أكبر دولة في العالم "امريكا"، ساعدته في التهرب من تنفيذ 705 قرارات من الاممالمتحدة، و86 من مجلس الأمن، حسب احصائية عباس نفسه، ومازال لدي الادارة الامريكية الكثير من المواقف والقرارات المعادية للشعب الفلسطيني، وكانت البدايات في قرار القدس وتقليص مساهمة امريكا في موازنة الوكالة الدولية لغوث ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين "الاونروا". ولا يختلف المشهد علي الصعيد الدولي والإقليمي او حتي العربي او الفلسطيني كثيرا فالتوجه العام دوليا هو رفض القرار او التعامل معه، دون اي إجراءات فعلية علي الارض، او تطوير المواقف باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس مثلا وهو المطلوب من دول أوروبية عديدة، كما كشفت المواقف الإقليمية والعربية من خلال اجتماعات القمة الاسلامية في اسطنبول، او اجتماعات القاهرة لوزراء الخارجية العرب، او الاردن للجنة العربية المعنية بعملية السلام، عن سقف محدود ومنخفض في التعامل مع القرار الامريكي، والتزام بفكرة التعاطي مع الممكن، ناهيك عن خلاف فلسطيني فلسطيني ضخم، ظهر في اجتماعات المجلس المركزي الفلطسيني الذي قاطعت أعماله كل من حركة حماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية، وتحفظت فصائل اخري علي القرارات، وكانت نتائج الدورة ال28 للمجلس المركزي والتي انعقدت الأسبوع الماضي "تحت عنوان: القدس عاصمة ابدية للدولة الفلسطينية"، تعبيرا صحيحا عن الازمة، والإشكاليات التي تواجه السلطة، فقد استثمرت اسرائيل كلمة "يخرب بيتك" التي قالها عباس بعفوية مخاطبا ترامب الذي ربط بين قراراته والضغط علي الفلسطينيين لاستئناف عملية السلام، قالها في معرض تعجبه من وجود عملية السلام اصلا، وجاءت معظم قرارات المجلس المركزي مراوغة، استخدمت سياسة "نعم ولكن" تفتقد الحسم، ومن ذلك تعليق الاعترافات المتبادلة لحين اعتراف اسرائيل بالدولة الفلسطينية، مع تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بالبحث في موضوع وقف التنسيق الأمني، والاستقلال الاقتصادي الفلسطيني عن اسرائيل. والخلاصة التي يجب العمل جديا عليها، هي البحث في مواقف جديدة، والتفكير "خارج الصندوق" بعد كل ما جري طوال 35 عاما، من مراوغات اسرائيل، فلماذا لا يكتفي محمود عباس بالتلويح بحل السلطة الفلسطينية، وهو كثيرا ما وصفها وسمعتها منه شخصيا، بانها سلطة بلا سلطة؟ لماذا لا يضع اسرائيل امام مسئوليتها كدولة احتلال، مسئولة عن إدارة حياة وشئون الفلسطينية اليومية؟ بإلغاء اتفاق أوسلو، الذي ثبت فشله. لماذا لا يسحب اعترافه بإسرائيل، ويوقف التنسيق الأمني معها، لماذا لا يترك الشارع الفلسطيني، والذي يملك القدرة علي الدخول في تجربة انتفاضة جديدة ومستمرة حتي يحقق أهدافه، في انتهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة. الامر يستحق تجربة البدائل المدروسة، وقليلا من المغامرة المحسوبة.