حصر تعداد السكان في مصر خطوة رائعة انتظرناها كثيرا لتمدنا بالضوء الكاشف الذي يوضح الصورة الكاملة للمجتمع المصري؛ مظاهر قوته وعوامل ضعفه لكي يستفيد بها القائمون علي التخطيط للسنوات القادمة في وضع استراتيجيات تنمية المجتمع، وطرق معالجة الخلل وسد النقص.. . وإذا كنا نعترف بأن ثلاثية الفقر والجهل والمرض هي أهم معوقات التنمية وأن هذه الثلاثية تعود في أسبابها إلي الانفجار السكاني فإن أهم ما جاء في التعداد تلك الحقيقة الصادمة عن وصول عدد المصريين إلي ما يربو علي مائة مليون نسمة. ما يخفف من وطأة هذه الحقيقة المرّة المعلومة التي يؤكدها التعداد الأخير بأن الشعب المصري شعب فتيّ وأن نسبة 61٫9 % من السكان تقع في فئة من هم في سن العمل. هذه حقيقة تحتاج من واضعي الخطط مزيدا من التحليل والدراسة لإيجاد افضل الطرق لاستثمار تلك الثروة البشرية والحصول منها علي أفضل طاقة إنتاجية ممكنة. إزاء هذه المعلومة نحتاج للوقوف علي مزيد من التفاصيل المهمة، فالتعداد لم يوفر لنا حصراً لعدد من يعملون بالفعل مقارنة بعدد من لا يعملون رغم أنهم في سن العمل. ولا أسباب تعطلهم مثلما قدم تفصيلا لأسباب التسرب من التعليم. كذلك لم يقسم هذه الفئة تقسيماً عمرياً ولا نوعياً بحيث نعرف نسبة من لا يعملون بسبب انخراطهم في الدراسة وما هي أنواع المهن والوظائف ومدي ارتباطها بمستوي التعليم أو مدي ثباتها أو موسميتها ونسبة الأطفال الذين يعملون في مهن لا تناسب طفولتهم وهم أدني من سن العمل. كنت أتمني أيضاً أن أجد تقسيما فئويا وعمرياً لقوة العمل في مصر ونسبة المرأة المعيلة حيث تعتمد معظم بيوت الطبقات الكادحة علي دخل المرأة. نتائج التعداد تزخر بالكثير من البيانات المفيدة، لكنها في المقابل تغفل بيانات أخري علي نفس القدر من الأهمية لكي نصل إلي الفائدة القصوي منها. رغم تفهمي لظروف إعداد التعداد وتقديري للجهد الخارق المبذول فيه أتصور أن انتهاج الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء للتعداد بالوسائل الإلكترونية كان سبباً في الحيلولة دون التوصل لكافة البيانات الضرورية المطلوبة والاقتصار علي حصر البيانات المسجلة دون التمكن من رصد ظواهر كثيرة لا يوجد لها حصر ولو تقريبياً. فمثلا كنت أحتاج كقارئة مهتمة أن أقرأ في نتائج التعداد حصراً ولو تقريبياً لأطفال الشوارع هذه القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في وجه المجتمع في أي لحظة. مجرد هوام علي الطريق، الكثير منهم بلا شهادات ميلاد ولا أرقام قومية ومن ثم فلا نتوقع أن يصيبهم الدور في الخدمة العسكرية. هؤلاء ولدوا ونشأوا وتزاوجوا تحت الكباري وأنجبوا وسينجبون. ولن تجد لهم أو لآبائهم أو أبنائهم أي ذكر في سجلات الحكومة ولا أدري كيف سيمكن استخراج شهادات وفاة لهم. الأحياء منهم بلا تعليم أو انتماء ولا أفق أو طموح. هم لقمة سائغة لمن يستغلهم ويحركهم كعرائس الماريونيت. إن لم تحسن الدولة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع فسيأتي من يفعل ذلك ليستخدمهم ربما ضد مصالح الوطن. إنها مسألة أمن قومي لو تعلمون. حين تحارب عدوا يجب أن تحسب موازين القوي وتقدر قوة عدوك جيداً وحين ترغب في تفكيك قنبلة موقوتة عليك أولا أن تفك شفرتها. فمن يملك شفرة هذه الفئة التي يقدّر عددها بالملايين لكنهم خارج التعداد؟. أطفال الكباري لم يعودوا أطفالاً، لقد أصبحوا فتية، شباباً ورجالاً أنجبوا أطفالاً، أجيالاً وراء أجيال. كذلك استوقفتني نسبة المستفيدين من التأمين الصحي التي تجاوزت بقليل نصف عدد السكان، أكثر من 90% منهم من العاملين في القطاع الحكومي مقابل 5٫8% ينتمون للقطاع الخاص. أظن أن هذه النسبة تطرح سؤالاً مهما علي واضعي الخطط الصحية والتأمينية للمصريين، هو: وماذا عن النصف الثاني من الشعب المصري كيف نمد لهم مظلة الحماية الصحية؟ مع العلم بأن غالبية هذا النصف إما من العمال اليوميين أو من المتعطلين عن العمل بلا دخل. الملاحظات كثيرة والطموح أكبر مما قدمه التعداد.. هي خطوة مشكورة ننتظر أن تتلوها خطوات أكثر دقة وتوغلاً في قلب المجتمع المصري.