كنت ومازلت شديد الإعجاب بالأديب الروسي الشهير مكسيم جوركي، وسر هذا الاعجاب أن هذا الأديب نشأ في بيئة فقيرة لم تساعده علي أن ينخرط في التعليم، فاشتغل نجارا وصبي فران وطباخا وبائعا متجولا وحمالا في الموانئ، ومع ذلك فقد أحب الأدب، وقرأ الأدب الفرنسي وأعجب ببلزاك، ومن كل هذه التجارب التي مر بها، وكثرة قراءاته في مختلف كتب الأدب الروسية والعالمية.. ومن تجاربه الكثيرة في الحياة، خلقت منه أديبا سرعان ما أصبح أديبا عالميا، لأنه كان يتناول في أدبه قضايا إنسانية تتحدث عن البؤس الإنساني وتطلع الانسان إلي واقع مشرق جديد. وقد تعرض هذا الأديب لقصة حب عنيفة كان هو بطلها.. فقد أحب وقد تجاوز الخمسين من عمره فتاة في العشرين تدعي »أولجا إيفانوفنا».. وكانت هي معجبة به كأديب ذائع الشهرة.. وبالطبع كانت تشعر بالزهو لأن قلب هذا الأديب الكبير تسلل إليه حبها! وقد قرأت الرسالة التي بعث بها إليها في كتاب: »صراع الحب والعبقرية» للأديب الكبير ابراهيم المصري.. الرسالة تمثل أروع تمثيل قلب عبقري كما تمثل ما في غرام الكهول من عنف وحسرة وجنون! وملخص هذه الرسالة: »لا أعرف لماذا كتبت إليك هذه الرسالة.. كان يجب ألا أكتبها أبدا، ولكن قوة قاهرة دفعتني، وعاطفة عميقة أخذتني، ورغبة قاسية مستبدة ختمت علي بصري وجردتني من كل عقل وكل فكر وكل إدراك اني لأخشي أن أتكلم، وأخشي أن أكتب وها هي الكلمات تفرمني وتتملص من قلمي، وكأنها تقول لي: مكانك أيها الرجل فأنت غر أبله، وأنت أحمق معتوه!! وفي هذه الرسالة يتحدث عن مشاعره، وعن حبه وعن سهره الليالي يفكر فيها، رغم علمه أن الفارق في العمر بينهما شاسع، ومع ذلك فالحب يعميه عن رؤية الحقيقة! ومما قاله في هذه الرسالة: أني مريض وحزين، وكل المرض هو الذي يغريني بالصحة. والضعف هو الذي يغريني بالقوة.. والحزن هو الذي يغريني بالفرح، ويزين لي تجربة السعادة في حبك لآخر مرة! ومستعطفها بقوله: أنت الجمال بنضرته الذهبية وأنت الشباب بإشراقه الحي أما أنا فخوفي من الموت هو الذي يدفعني إليك، ولأني أخاف الموت أجد نفسي بالرغم مني مرتميا في حضن حبك. هو ذاك المرض الذي أشعر به يذوب ويضمحل في فيض صحتك. والضعف الذي أثور عليه يتبدد ويفني في قوتك الحزن الفاجع الذي أغالبه وأقاتله ينطرح علي الأرض صريعا.. وتموت صرخاته في ضحكاتك البريئة المدوية النشوي. وبعد استعطافه يحدثها عن أثر حبه في انتاجه الأدبي والمسرحي، ولكنه يدرك تماما أنها الربيع وهو الخريف ومن الصعب التقاء الربيع بالخريف! وتزوجت أولجا إيفانوفنا، وكانت تشعر بمعاناة الكاتب الكبير، فقررت أن تعرفه بزوجها، وسمحت له أن يتردد علي منزلها، وكان جوركي يقدر لها ذلك، وكان يشعر بالخزي من ضعفه أمام هذا الحب المجنون، وأنه ما كان ينبغي له أن ينساق وراء قلبه بلاعقل ولاوعي، وعاتب نفسه أشد ما يكون العتاب، وقرر فيما بينه وبين نفسه أن يبتعد عن هذا الجنون الذي أوقعه فيه الحب.. لقد ضاق ذرعا بحظه، فاختفي عن الزوجين ذات مساء، وغادر بيتهما ولم يعد إليه أبدا..! بلدي يحاصره التتار قرأت آخر ديوان صدر للشاعر الكبير الدكتور أحمد تيمور وعنوانه -بلدي يحاصره التتار- والعنوان دال.. لأنه يتحدث عن وطنه الذي تحاصره المكائد والدسائس والمؤامرات.. وقد أغناني عن كتابة ما أحسست به من مشاعر تجاه مضمون الكتاب من قدرة فنية وابداعية راقية للشاعر.. ما كتبه الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الأسبق في مقدمة الكتاب عن رؤيته النقدية للديوان- إنه يري أن هناك تشابها كيميائيا بين موسيقي بيتهوفن وأشعار تيمور. تتميز موسيقي بيتهوفن بالقوة التي تجعل المستمع ينتقل فجأة من حالة الاستماع إلي حالة الاستمتاع المفرط- هذه الفجائية تشبه حالة التسامي في الكيمياء، وهي ايضا تجمع السعادة والخوف كما يعلق علي موسيقاه كبار النقاد، ثم يعيدك إلي هدوء الواقع مرة أخري بحرفية بالغة، وكذلك أشعار تيمور- خاصة الوطنية فيها، حيث تندرج من مقدمات هادئة بانورامية عن الوطن الحبيب ثم تنتقل إلي التحديات والأخطار التي تخترق وعي المجتمع بسهام ماذا ولماذا وكيف. وعند هذه الذروة يعود شعر تيمور ليطمئن المستمع بالعثور علي وطنه أن هناك فجرا قادما لامحالة وأن العمل والصبر هما الملاذ. ونعود إلي الديوان.. وفي مقدمة هذا الديوان.. تلك القصيدة الطويلة عن التتار الذين يحاولون أن يطيحوا أمامهم بكل شئ.. ويخربون كل شئ، ولكن كل أحلام التتار سوف تتحطم أمام صلابة شعب قرر أن يبني غده وتاريخه. يا أيها البلد المحاصر هل يفيد مع الشذي والنور والنغم الحصار أنت الشذي والنور والنغم الاصيل تعيش يابلدي أنا ويموت للأبد التتار ونمضي مع قصائد الديوان الأخري التي نحس فيها بنبض قلب الشاعر المحب لوطنه، والذي يري ان سحب الظلام سوف تنزاح عن سمائنا، واننا سوف نبني تاريخا ومجدا، ونحقق المعجزات ونحن نبني مستقبلا زاهراً، مشرقا، يستعصي علي أن ينال منه الطغاة. ونقرأ في الديوان.. يامصرنا.. ياقبلة السما علي خد البسيطة ياشمعة خضرا أضاءت في الخريطة و.. ما أجمل الابحار مع اشعار نابعة من القلب لتصل إلي كل قلب.. ونابعة من العقل لتصل إلي كل عقل. ان الشعر الجميل الذي يتغلل إلي العقل والوجدان بسهولة ويسر. وقديما قال جان كوكتو: الشعر ضرورة ولا أعرف لماذا؟! كلمات مضيئة أمران يحددان شخصيتك: صبرك حين لاتملك شيئا. وتصرفاتك حين تملك كل شئ. برنارد شو