أشفق علي أجيال لم تعش هذه الأيام، ولم تذق طعم الفرحة التي عاشها الشعب العربي في كل أقطاره وهو يحتفل بهذه الوحدة الوليدة قبل أيام.. جلست لأكتب في ذكري أول وحدة عربية في العصر الحديث. تلك التي تمت بين مصر وسوريا عام 1958، لتقوم الجمهورية العربية المتحدة تجسيدا لحلم الأمة العربية كلها في ذلك الوقت. جلست لأكتب ولم استطع. قهرني الحزن وهزمتني مشاهد الدمار التي تلاحقنا لتقول إن سوريا العزيزة قد تحولت إلي أشلاء دولة. وأن شعبها الشقيق يعاني ما لم يعانه شعب آخر.. من دمار وتشريد وقتل. وأن ما كان »قلب العروبة»، يتمزق، وأن ما كان تجسيدا للحلم قد تحول إلي رمز للمأساة التي يعيشها العرب في سنوات التراجع!! لكنني، بعد ذلك- أعدت التفكير.. قلت: ولماذا نستسلم لما يراد لنا؟ ولماذا لا تكون الذكري- مجرد الذكري- تعبيرا عن رفض الموت، والرغبة في الحياة؟ ولماذا- رغم الجراح ورائحة الموت التي نشمها مع كل خبر عن سوريا- لماذا لا نستعيد رائحة الفل والياسمين التي عطرت حياتنا ونحن نحول حلم الوحدة إلي واقع نتحدي به الصعاب ونقهر تاريخا من الإذلال ضاع فيها العرب بين غزو الأجانب ودعاوي التخلف وقهر استعمار لم تختلف جرائمه وهو يتحدث باسم أوروبا. أو يرتدي عباءة السلطة العثمانية، أو يعطي الحكم للخصيان والمماليك!! من بورسعيد.. إلي دمشق لم يكن قد مضي إلا عام وبضعة شهور علي حرب السويس المجيدة عام1956. الصبي الذي ولد في أسر احتلال عسكري بريطاني، ونهب لا يصدق بسرقة قناة السويس من مصر، يعيش أفراح شعب طرد الاحتلال واسترد القناة. بورسعيد الجميلة التي أصابها الدمار وأحرقتها نيران العدوان الثلاثي يعاد بناؤها وتستعيد بهاؤها، وتصبح أنشودة يتغني بها العالم العربي كله، ومعه شعوب العالم العاشقة للحرية أو المشتاقة لها. دم الشهداء لم يذهب هدرا. تحول إلي لعنة تطارد الاحتلال علي كل أرض عربية، وإلي طاقة نور يتجمع حولها كل العرب يطلبون الحرية والكرامة، ويدركون أن وحدتهم هي الطريق. لم يكن عبدالناصر هو الذي طلب الوحدة مع سوريا أو فرضها في ذلك الوقت. العكس هو الصحيح. جاء قادة سوريا السياسيون والعسكريون إلي القاهرة ليفرضوا الوحدة!! كان عبدالناصر يعرف الصعوبات التي ستقابل هذه الخطوة. تمسك بأن تكون »كونفيدرالية»، تحتفظ فيها كل من الدولتين باستقلالها مع درجة عالية من التنسيق وتعميق العمل المشترك. وكان الرد: إن الوقت لا يتسع لذلك. فالقوات التركية تم حشدها علي الحدود، وباقي أطراف حلف بغداد تستعد لإحكام الطوق علي سوريا- والسقوط مؤكد، وبعد السقوط سيكون الانتقام أسهل من مصر التي انتصرت وتحررت واستعادت القناة وأكدت موقعها وتحملت مسئوليتها في قيادة أمتها العربية نحو الحرية والاستقلال. كان الموقف غريبا.. عبدالناصر الذي يقود حركة التحرر الوطني ويدعو لوحدة الأمة العربية يطلب التمهل، وقادة سوريا يقولون إنها لحظة تقرير مصير، وأنه لا مجال إلا لوحدة كاملة تنقذ سوريا من السقوط في أيدي الأعداء، وتنقذ المصير العربي من انتكاسة حلم الوحدة، وتعطي للجماهير العربية دفعة من الأمل في أن النصر قادم، وأن الاحتلال إلي زوال، وأن ما بدأ في انتصار السويس لابد أن يكتمل برحيل كل احتلال، وبانتصار »العروبة» علي أعدائها. ولم يكن هناك من مفر تحملت مصر مسئوليتها، وانتصرت لعروبتها، وتم الاعلان في مطلع فبراير عن مشروع الاتفاق علي دولة الوحدة، ليطرح في استفتاء شعبي حرسته إرادة الشعب العربي في مختلف الأقطار التي كانت تري بداية تحقيق الحلم وتنتظر دورها!! لحظة للتاريخ.. وعداء بلا حدود أشفق علي أجيال لم تعش هذه الأيام، ولم تذق طعم الفرحة التي عاشها الشعب العربي في كل أقطاره وهو يحتفل بهذه الوحدة الوليدة. ما أجمل أن يجتاحك شلال الفرح، وأن تعرف أن الجميع يشاركونك هذه المشاعر. ما أروع أن تكون شاهدا علي لحظات فارقة في التاريخ حين يكون هذا التاريخ ماضيا في الطريق الصحيح، ومعبرا عن إرادة حرة، ودليلا علي انتصار الشعوب علي أعدائها، وتأكيدا علي أن العروبة هي الهوية وهي المصير. لو أن هناك لحظة في التاريخ تستحق »التثبيت»، لكانت هذه اللحظة. ولو أن هناك درسا ينبغي للأمة العربية كلها »وليس لنا في مصر فقط»، ألا تنساه.. فهو درس هذه الوحدة التي تكالب عليها كل الأعداء، ولم تتوقف يوما واحدا المؤامرات لضربها. سواء من قوي الخارج أو من عملائهم في الداخل. كانت الأوضاع صعبة. وكان نصف الوطن العربي مازال تحت الاحتلال. وكان الصراع الدولي علي المنطقة في ذروته. وكانت الرجعية الحاكمة في عدد من الدول العربية تخشي من رياح التقدم ومن إرادة الوحدة. وكانت لدولة الوحدة الوليدة أخطاؤها التي تم استغلالها، لنجد أنفسنا بعد ثلاث سنوات فقط أمام مؤامرة الانفصال. وليكون موقف عبدالناصر في هذه اللحظات المريرة علي كل عربي، درسا جديدا ويضيف للوحدة ولا ينتقص منها، ويؤكد علي أن العروبة أقوي من كل أعدائها. رفض عبدالناصر استخدام القوة لانهاء مؤامرة الانفصال. أدرك أن الأعداء يريدون الانفصال طريقا لتدمير سوريا ثم مصر. أعلن بوضوح واستقامة أنه ليس من المهم أن تبقي سوريا جزءا من الجمهورية العربية المتحدة. لكن المهم أن تبقي سوريا. لم تكن خرافة.. ولن تكون بعدما يقرب من ستين عاما من قيام أهم وحدة في تاريخ العرب الحديث، وبعد هذه السنوات الكئيبة التي تعيشها الأمة والتي تشهد دمار سوريا وعدد من دولنا العربية، يبقي السؤال هو: ماذا لو آمن الجميع بصدق ما قاله عبدالناصر في لحظة كان يمكن أن تأخذه فيها رغبة الثأر؟ ماذا لو آمن الجميع بأن »المهم أن تبقي سوريا»؟! ثم تبقي حكاية أن »العروبة.. خرافة» والتي تسعي أطراف كثيرة لترسيخها في وجداننا، حتي يتم المضي في مشروع »تقسيم المقسم» من العالم العربي، بدلا من توحيده!! وحتي تظل المنطقة رهنا بصراعات »الآخرين» وتقسيم النفوذ بينهم.. بدءا من »الكيان الصهيوني» وامتدادا إلي تركيا وإيران.. وكلهم حلفاء في معاداة »العروبة». وكلهم يريد مد نفوذه علي الأرض العربية. وكلهم لا ينكر كراهيته »للعروبة» ولا مسئوليته في التآمر عليها، بل يعتبر هذا التآمر انجازا له وانتصارا تأخر ستين عاما (!!) لأن ما نراه الآن علي أرضنا العربية، هو ما كان مقررا لها منذ البداية.. لولا المقاومة الشجاعة التي قادتها مصر بقيادة عبدالناصر. ولولا أن الشعب العربي في كل أقطاره انحاز لنفسه، واختار عروبته، ووقف وراء قيادته التاريخية علي طريق التحرر والوحدة. من يريد الآن أن يحاكم التاريخ، عليه -قبل كل شيء- أن ينظر حوله، ليري ما آلت إليه أحوال العالم العربي بعد انكسار »الوحدة الأم» الذي كان المقدمة لانكسار يونيو بعد بضع سنوات. البعض منا مازال -للأسف الشديد- يردد ما يقال بأن »العروبة» وهم أو خرافة. ولو أخلصوا لأنفسهم ولعقولنا وللتاريخ، لأدركوا أنها الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن تحكم واقعنا في العالم العربي، لتنقذه من مخططات التقسيم، ومن أخطار الإرهاب، ومن مصير سوريا التي كانت قلبا للعالم العربي، فأصبحت -كما أرادوها من ستين عاما- نموذجا لما يراد للعرب إذا تحولوا إلي أدوات لتنفيذ مخططات »الآخرين» وإذا تركوا عروبتهم إلي مجاهل التخلف علي أيدي الإخوان والدواعش، أو إلي خيانة العروبة، ليكون مصير الوطن العربي بأكمله في أيدي غير العرب!! ورغم كل شيء، يبقي بعض العزاء. لم نكن ننشد »وحدة ما يغلبها غلاب» لنخدع أنفسنا، أو نخدع الآخرين. كنا جيلا يحقق الحلم في الواقع. نقاتل رغم الصعاب. ننتصر وننهزم، لكننا لم نفقد الأمل. الآن -وأكثر من أي وقت مضي- نعرف أن »وحدة العرب» هي القضية، وأن غيابهم هو المأساة، الآن -وأكثر من أي وقت مضي -نتأكد من أننا لم نضيع العمر هدرا. كانت مقاومتنا هي السبب في أن نؤخر المأساة لنصف قرن- وهي السبب أيضا في أن يدرك العرب جميعا الآن، أنه لا نجاة إلا بانتصارهم لعروبتهم، وبوحدتهم التي ينبغي ألا يغلبها غلاب!! المتآمرون.. يعترفون بالجريمة!! كان الزميل العزيز إبراهيم سعدة (رد الله غربته) شاهداً علي أحد فصول جريمة الانفصال. كان إبراهيم يدرس الصحافة في سويسرا وكان يراسل من حين لآخر مجلة »الجيل» التي كان يرأس تحريرها في هذا الوقت أنيس منصور. بعد أيام من جريمة الانفصال تم الانقلاب علي قادته، وحملوا في طائرة خاصة إلي سويسرا، حيث ظلوا تحت الرقابة المشددة. وبعد فترة أرادوا أن يكفروا عن بعض ذنوبهم. كتبوا رسالة للمسئولين في مصر يكشفون فيها أسرار ما حدث. وبحثوا عن وسيلة لايصالها للقاهرة. وجدوا طريقة للتواصل مع إبراهيم سعدة. تسلم الرسالة وطار بها إلي القاهرة، حيث أخذه مصطفي أمين إلي المسئولين الذين تسلموا الرسالة التي كشفت أسرار المؤامرة والأطراف المشاركة فيها والممولة لها، والتي حاولت -بعد الانفصال- أن تعزل مصر عن أمتها العربية، وأن تغلق أبواب الأمل التي فتحتها ثورة يوليو أمام ملايين العرب من الخليج إلي المحيط لكي يبنوا مستقبلهم من جديد. وحين يكتب التاريخ علي ضوء الحقائق وحدها. سنكتشف أن كل من شارك في جريمة الانفصال، كان شريكا أيضا في هزيمة يونيو.. لكن ذلك حديث آخر. يكفي هنا فقط أن نتذكر أن وحدتنا كانت خطرا علي كل الأعداء، وأن حربهم عليها ستظل علي شراستها إلي الأبد!! .. ما يغلبها غلاب!! كان اعلان الوحدة عيدا حقيقيا للملايين في مصر وسوريا وفي كل انحاء الوطن العربي. وكانت الأغنية -كالعادة- أسرع الوسائل الفنية للتعبير عن هذا الفرح الحقيقي. عشرات الأغاني أطلقها الفنانون في هذه المناسبة، ثم في الاحتفالات التي كانت تقام في عيد الوحدة كل عام. الكل تغني ومن القلب.. بدءا من أم كلثوم وعبدالوهاب وحتي شادية وصباح. والكل كتب بدءا من صلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وحتي الشاعر الكبير كامل الشناوي الذي تخلي عن كسله ليكتب لعبدالوهاب رائعته »أغنية عربية». لكن تبقي »وحدة ما يغلبها غلاب» التي غناها محمد قنديل هي عنوان الفرح بهذه المناسبة التاريخية. والغريب أن الأغنية الأنجح جاءت من خارج السياق. كان الملحن القدير عبدالعظيم عبدالحق قد علم متأخرا بالبيان الصادر عن مباحثات الوحدة. أسرع إلي الإذاعة ليقول له مسئول الأغاني الأشهر في تاريخ الاذاعة المصرية (محمد حسن الشجاعي) إن كل النصوص الغنائية التي أجيزت قد تم توزيعها علي الملحنين والمطربين. وكاد عبدالحق أن يعود خائبا، إلا أنه لمح بيرم التونسي يغادر الاذاعة بعد أن مر علي »الخزينة» وقبض بعض مستحقاته. جري وراءه فأخبره بيرم أنه لم يذق النوم لأنه ظل ساهرا حتي أنجز ثلاث أغنيات سلمها وتم توزيعها علي كبار الملحنين. تحايل عبدالحق علي بيرم حتي أخذه إلي المقهي المجاور للاذاعة. وعلي ورقة صغيرة كتب بيرم »وحدة ما يغلبها غلاب» ليطير بها عبدالعظيم إلي منزله المجاور للاذاعة. وبعد ساعات كان يقوم بتحفيظ اللحن لمحمد قنديل، وفي اليوم التالي تذاع الأغنية لتعيش حتي اليوم عنوانا للوحدة التي تظل -رغم كل النكسات- أملا لا يغيب لكل العرب. آخر الكلمات سلاماً دمشق. وشوقاً إلي عطر الوحدة يملأ سماءك بالمحبة والجمال، بعد أن تختفي رائحة الموت، ونعبر أيام الوباء!!