بدت القصة كلها أقرب إلي لعبة كومبيوتر، وأشبه بلعبة «البوكيمون» التي راجت أخيرا، فالذين قيل إنهم انقلبوا علي إردوغان، لم يرهم أحد، لم يظهر أحدهم علي شاشة تليفزيون، ولا ظهر لهم نصير ولا ظل نصير في الشارع، وكأنهم كالبوكيمون اختبأوا تحت أسرة الجيران، والمذيعة الشقراء التي قرأت ما اسمي بيان الانقلاب من ستديوهات التليفزيون الرسمي التركي، هي نفسها السيدة الشقراء التي خرجت تدين الانقلاب بعد ساعات، وطوال مدة العرض التي طالت لخمس ساعات، ظهر إردوغان في بدايتها مطمئنا واثقا، ومتحدثا لفضائية تركية شهيرة، وجري نقل الكلام للعالم عبر تطبيق «فيس تايم» علي التليفون المحمول، وكذلك فعل عبد الله جول رفيق إردوغان والرئيس التركي السابق، وأحمد داود أوغلو رئيس الوزراء المستغني عنه، ودعا الثلاثة جماهير الشعب التركي للخروج بالملايين، وقد تابعت ما جري لحظة بلحظة عبر الشاشات الفضائية الدولية والعربية المعتد بها مهنيا، وبما فيها قناة «الجزيرة» الموالية آليا لإردوغان، ولم أر من الجماهير التركية سوي آحاد فعشرات فمئات قليلة، فلا ملايين خرجت ولا يحزنون، وكل الذين تظاهروا في «اسطنبول» مثلا أقل من المتجمعين حول خناقة بالمطاوي في «سوق السمك»، وتكفي أعدادهم بالكاد لملء ثلاثة «ميكروباصات»، ثم قيل إن هذه العشرات هزمت الانقلاب العسكري، وظهر إردوغان أخيرا في مطار «أتاتورك» الدولي، يتحرك مع أعوانه بصورة مسرحية مرسومة، ويتوعد المنقلبين بالدرس القاسي، ثم لم يظهر الآلاف في شوارع أنقرة وأزمير واسطنبول، يهللون ويكبرون، إلا بعد إسدال الستار بيوم كامل، والفشل الذاتي لما أسموه بالانقلاب الخطير. بدت القصة كلها علي قدر من الاصطناع الملحوظ والمبالغة المدبرة، لم يدبر إردوغان طبعا ما قيل إنه انقلاب، بل كان يعلم بالقصة قبل أن تجري، وهو نفسه قال بعظمة لسانه إنه كان يعرف الذين انقلبوا بالاسم، وكان ينوي طردهم من الجيش في اجتماع وشيك للمجلس العسكري، وأنهم جماعة محدودة أو شرذمة من ذوي الرتب الوسطي والصغري، قرروا أن يطيحوا بسلطة إردوغان، بدلا من أن يتركوا له الفرصة لطردهم من الجيش، والكلام ظاهر في معناه ومغزاه، فلم يكن في القصة انقلاب عسكري بمعني الكلمة، وقد شهدت تركيا الحديثة انقلابات عسكرية عديدة، لم يفشل الجيش أبدا في واحد منها، وكان يترك الحكم بعدها للمدنيين، وكما جري في انقلاب 1960 ضد حكومة عدنان مندريس الذي أعدم، وفي انقلاب 1971، وفي انقلاب 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين أوائل الثمانينيات، وفي انقلاب 1997، والمعروف تندرا بانقلاب «ما بعد الحداثة» الذي أطاح بحكومة أربكان أستاذ إردوغان، والذي عرف أيضا بانقلاب «المذكرة»، فقد أطاح الجيش التركي بمن يريد، وبمجرد إصدار بيان ومذكرة اعتراض يرسلها عبر الفاكس، وهو ما تكرر بعدها في 2001، ومنذ تولي إردوغان السلطة بعدها بعام، وتقليمه لأظافر الجيش، وسحبه لسلطة حماية الدستور من الجيش، لم تشهد تركيا انقلابا عسكريا واحدا، اللهم إلا في وساوس إردوغان، حين تحدث عن نوايا انقلاب محبطة في عامي 2007 و2009، ثم تلبسه الخوف والفزع مع تدهور مكانة الإخوان في أقطار الثورات العربية، وخروج مظاهرات الأتراك المعارضين في ميدان «تقسيم» الشهير، وتكرار إعلانات إردوغان عن مؤامرات تدبرها ضده جماعة فتح الله جولن، وإعلانه الحرب علي جولن الذي تحول إلي شبح عفريت يطارد إردوغان، وكانت الإضافة في المرة الأخيرة بسيطة، ولزوم ما يلزم من جلب الدراما والإثارة، فقد صدر بيان مجهول عن مجهولين، قال إردوغان إنه كان يعرفهم ويعرف نواياهم، وتركهم لما فعلوا، فهو يعرف أن كل شيء تحت السيطرة، ولكن لا مانع عنده من مواصلة اللعبة إلي آخرها، وحتي يبدو للعالم أن الشعب التركي لا يقبل بديلا لإردوغان، بل إن «الملائكة» نفسها حاربت لأجله، أو هكذا قال مفتي الإخوان يوسف القرضاوي في واحدة من تخاريفه المعتوهة. القصة إذن لا تعدو كونها «تمردا» عسكريا محدودا، قام به هواة علي سبيل الرغبة في الانتقام، واستباقا لقرارات كانت جاهزة بطردهم من الجيش، وإردوغان كان يعرف كما قال، لكنه ترك «الدراما الصغيرة» تجري مشاهدها، وفضل تصويرها كأنها انقلاب حقيقي أسقطته الجماهير، ولم يفعل ذلك إردوغان عبثا، فهو شخص غاية في الذكاء، و»ألعبان» سياسي من طراز نادر، ويريد تركيا كلها في قبضة يده، وهو ما فعله ويفعله بالضبط، فهو يدعي وجود خطر عسكري ماحق علي السلطة المدنية المنتخبة، لم يلمسه أحد من المتابعين لساعات الدراما الانقلابية، فقد قيل إن الانقلابيين قصفوا مبني البرلمان في «أنقرة» بطائرات مروحية عسكرية، ثم تبين أن الأضرار التي لحقت بالمبني مجرد تصدعات جانبية، وكأن الطائرات التي يهدم قصفها مدنا كاملة، كأن هذه الطائرات رمت البرلمان بحجر أو بقنابل كرتون، لا بقنابل تدمير شامل، وهكذا جري الأمر في كل وقائع الانقلاب الحربية الطريفة، وتبين أن نصف الذين قتلوا كانوا من الذين وصفوا بالانقلابيين، فقد وجدها إردوغان فرصة كان ينتظرها للتنكيل الدموي واسع النطاق، وجري اعتقال الآلاف من العسكريين والمدنيين، وجري إقصاء واعتقال قادة الجيش الكبار الذين لم يشاركوا في أي تحرك، وجري إقصاء واعتقال الآلاف من القضاة وضباط الشرطة، جري اعتقال ما يزيد علي عشرة آلاف في بضع ساعات، وكأن القوائم كانت معدة من قبل، وكأن إردوغان سمح عمدا بمرور انقلاب عبثي لا خطر منه، وحتي يتخذه ذريعة لما هو أهم، وهو الإطاحة بكل معارضيه الظاهرين والمحتملين في مؤسسات الدولة التركية العسكرية والمدنية، وبدوافع الخشية من انقلاب شعبي وعسكري شامل عليه في مرة مقبلة، لن يكون بمقدوره وقتها مواصلة ألعابه المفضلة، ولا التسلي بانقلابات «البوكيمون».