كلنا نعلم وندرك ونؤمن بأن الموت علينا حق. رغم ذلك فإن الحزن غالب وصعب علي الأقربين والمحبين إلي أن تطويه عجلة النسيان التي هي من نعمات الله. شاءت الأقدار أن تفقد مصر علي مدي 24 ساعة.. قامتين بارزتين في تاريخها الحضاري صحفيا وسياسيا ودبلوماسيا .. تمثلتا في رحيل الكاتب الأشهر محمد حسنين هيكل.. العلامة البارزة في العمل الصحفي والتحليل السياسي.. والدكتور بطرس غالي الذي يعد من أعلام الدبلوماسية المصرية والدولية. لا يمكن لأحد مهما كان رأيه في الأستاذ هيكل إيجابا أو سلبا علي مدي مسيرته الصحفية الطويلة التي استمرت مايزيد علي 70 عاما.. ان يتغافل عن البصمة التي تركها سواء علي الساحة الصحفية أو السياسية. وكواحد من أبناء مدرسة «أخبار اليوم» فقد كانت هذه المؤسسة العريقة بداية انطلاقته إلي عالم الشهرة والتأثير السياسي. عاصرت الأستاذ مع بدء حياتي الصحفية في أخبار اليوم حيث كان يتولي رئاسة تحرير آخر ساعة. كان اسمه أيضا ضمن رؤساء تحرير «الأخبار». كان ذلك إبان ملكية وقيادة عملاقي الصحافة المصرية الوطنية.. مصطفي وعلي أمين - رحمة الله عليهما- أتاح له عمله ومكانته في اصدارات أخبار اليوم.. اكتساب علاقته الوطيدة بثورة يوليو 1952 وبمفجرها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. تدعمت هذه العلاقة وهذه الصداقة بعد ذلك لتكون طريقه لرئاسة مؤسسة الأهرام. قاده ذكاؤه واجتهاده وحرفيته في الكتابة الصحفية إلي تعاظم هذه العلاقة وهذه الصداقة إلي أن أصبح الصحفي الأوحد الأقرب إلي جمال عبدالناصر. رغم أهمية هذا الأمر في شهرته وتميزه وعلو شأنه وتأثيره السياسي إلا أنه أدي إلي أن تكون له عداوات داخل النظام السياسي السائد وان كان أحدا لم يقدر أن ينال من نفوذه وسطوته. وفي السبعينيات عين الأستاذ هيكل بعد التأميم وابعاد الأخوين مصطفي وعلي أمين مشرفا علي أخبار اليوم إلي جانب رئاسته لمؤسسة الأهرام. كان من رأي أبناء أخبار اليوم أن هذا الأمر لم يكن لا في مصلحتها ولا في مصلحة المنافسة الصحفية العادلة. وكما ذكرت فإنه ومهما اختلفت الآراء حول شخصية الأستاذ هيكل إلا ان هناك اجماعا علي أنه كان شخصية صحفية فذة نافست أشهر القامات الصحفية في العالم. الشيء المؤكد انه وبعبقريته البشرية قد افاد واستفاد من علاقته بثورة 1952 وقائدها.. الا انه يمكن القول في نفس الوقت انه كان موفقا بشكل كبير في الكثير من تحليلاته ونصائحه. هذا لا يمنع اتسام جانب مما كتبه وما ابداه من آراء للانحياز والنزعة والمشاعر الشخصية. كان ذلك واضحا وجليا في مواقفه تجاه الزعيم الراحل العظيم انور السادات الذي كان وراء انتصار حرب اكتوبر المجيدة التي اعادت سيناء الي حضن الوطن بعد سنوات الاحباط التي احدتثها نكسة 1967. رغم كل عظمة ومحاسن الاستاذ - رحمة الله عليه - فان معالجته لبعض القضايا لم تكن تخلوا من التجاوز في الرأي والتقدير.. الي جانب ان المنافسة المهنية كانت تقوده في أحيان اخري الي التجني وكلها صفات لاتقلل من قدره وقيمته بشكل عام. أما القامة الثانية التي غيبها الموت فانه بطرس غالي فارس الدبلوماسية المصرية صاحب الخبرة الهائلة التي توجته علي عرش العلوم السياسية والعمل السياسي والدبلوماسي ليس علي المستوي الاقليمي فحسب وانما علي المستوي الدولي. رحل د. بطرس غالي أول مصري عربي يشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة. كان يملك الشجاعة والكرامة والجرأة والالتزام بالمبادئ. تصدي لجبروت السياسات والتدخلات الأمريكية للاضرار بمصالح الدول الي جانب سوء تعاملها مع بعض القضايا داخل الأممالمتحدة. لم يأبه لسطوتها وهو ما أدي إلي شحذ كل أسلحتها للخلاص من وجوده في منصب الأمين العام للأمم المتحدة وعدم التجديد له. أذكر انني اتصلت به تليفونيا يوم صدور قرار اختياره أمينا عاما للأمم المتحدة وكان في زيارة لألمانيا. قال لي وهو سعيد ان الرئيس الأسبق حسني مبارك اتصل به في تلك الساعة ليقول له «مبروك يا جو». أخبرني ان إعلان هذا الخبر احدثا انقلابا في مراسم زيارته لألمانيا. قال انه فوجئ بتكليف رتل من رجال الشرطة الألمان راكبي الدراجات النارية «الموتوسيكلات» بأن يتقدموا سيارته تقديرا للمنصب الدولي الرفيع الذي أصبح يشغله بعد صدور موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن أشهر المواقف التي تؤكد ما يتمتع به من خبرة فاحصة وبعد نظر عندما أقدم علي أبلاغ الرئيس مبارك اعتراضه علي تقارير أمنية سيادية تتعلق بقائد انقلاب عسكري في احدي الدول الافريقية المجاورة. قام الرئيس الذي كان قد أخذ بما جاء في هذه التقارير الأمنية داعما ومؤيدا لهذا الانقلاب عربيا ودوليا حيث تم اكتشاف بعد ذلك مساندته للفكر والمواقف التي تتوافق ومصلحة مصر الوطنية. بعد فترة قصيرة تبين لمبارك صحة وصدق نصيحة بطرس غالي. وهو الامر الذي دفع به إلي اقالة المسئول الاول عن جهاز الأمن جزاء تقديمه لمعلومات تضر بالامن القومي المصري. لم تأت نصيحة الراحل بطرس غالي من فراغ وانما كانت وليدة علاقته واتصالاته وخبرته الطويلة ومتابعته العميقة في الشئون الافريقية والتي أهلته لأن يتولي هذا الملف لسنوات طويلة إلي أن أصبح نائبا لرئيس الوزراء. تم استثمار شخصية بطرس غالي التي تحظي بالاحترام والتقدير علي مستوي العالم باختياره رئيسا للمجلس القومي لحقوق الانسان في مصر لسنوات طويلة. كان جرئيا وشجاعا في التصدي لاي انتهاكات تتعرض لها حقوق الانسان طوال فترة هذه الرئاسة. كنت علي صلة قوية به خلال هذه الفترة من خلال مبادرات التعاون مع المجلس الاعلي للصحافة الذي كنت امينه العام لسنوات . كان مقر المجلس الاعلي للصحافة يقع تحت الدور المخصص للمجلس القومي لحقوق الانسان بمبني البرج القائم في المنطقة الملاصقة لفندق الهيلتون علي كورنيش النيل والذي حرقه الفوضويون بعد ثورة 25 يناير حيث تعرض للنهب والتخريب. عندما نتذكر د. بطرس غالي لابد وان تبرز امامنا شجاعته في الدفاع عن اتفاق كامب ديفيد الذي كان احد الخبراء الذين اعتمد عليهم الرئيس الراحل انور السادات في التوصل اليه. جاء ذلك انطلاقا من انتمائه الوطني وايمانه بأنه سيحقق لمصر استعادة ارض سيناء وتوفير الاطار القانوني. لاجدال ان رحيل هيكل وغالي يعد خسارة كبيرة لهذا الوطن وهو ما يدعونا الي الدعاء لله بان يعوضنا خيرا عنهما. «وإنا لله وإنا إليه راجعون»