كانت المهمة الأساسية والغاية الإنسانية التي أُرسل من أجلها النبي صلي الله عليه وسلم إلي البشرية، مهمة أخلاقية في المقام الأول، تحمل في مضمونها العمل علي نشر قيم الخير والفضيلة بين الناس، وزرع الأخلاق بينهم كمنهج حياة يسيرون عليه، «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ولاعجب فهو الذي امتدحه ربه قائلاً: «وإنك لعلي خلق عظيم»، وكأنه يحدد له الهدف والمقصد من رسالته: «الأخلاق أولاً». الأخلاق تمثل العمود الفقري للمجتمعات البشرية، والمنظم للعلاقة بين أفرادها، وهي مثل البذرة تزرع داخل الإنسان منذ الصغر وتنمو معه يومًا بعد آخر، حتي تتشكل شخصيته في النهاية، وإذا كان منحني الأخلاق داخل المجتمعات في تصاعد كان ذلك عامل قوة له، والعكس صحيح، إذا كان المنحني في هبوط، فإن ذلك مؤشرًا علي أنها في طريقها إلي الانهيار، «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». لكن المفارقة أنه في حين ارتفع خط التدين خلال ال 20 سنة الأخيرة، إلا أن خط الأخلاق في تراجع واضح، كما كشفت دراسة أجراها للهندي رحمان خان بجامعة «جورج تاون» الأمريكية في عام 2010 حول مدي التزام دول العالم بمعايير الأخلاق الإسلامية؟، حلت فيها الدول الإسلامية في ترتيب متأخر مقارنة بدول أوربية، إذ جاءت النرويج في الصدارة تلتها السويد، بينما جاءت ماليزيا أولي الدول الإسلامية في المركز 33 عالميًا، والكويت الأولي عربيًا في الترتيب 81، ومصر 128، وسوريا 168، واليمن 180. كيف حدث هذا الانهيار؟ هناك سببان رئيسيان، الأول مسئول عنه العلماء والدعاة، من خلال تهميش الأخلاق علي حساب الأحكام الفقهية، حتي صار الفقه أهم من التربية والأخلاق، فأصبحنا نردد «حلال.. وحرام»، دون ربط ذلك بالأخلاق، ودون فهم حقيقي لمقاصد الفقه، وأصبحت كلمة «الشريعة» مفهومًا مرادفًا ل «الحدود» في أذهان الكثيرين. وهناك من استغل ذلك لأهداف سياسية، وهناك من لم يفهم أن الأخلاق هي جوهر الشريعة، فإذا كانت الشريعة كتاب قانون، فإن الفصل الأخير فيه هو فصل العقوبات الجنائية، أما سائر فصوله فهي أخلاقية، لكن حصل خلط واضح في الأولويات، فتأخرت الأخلاق وأصبحت الشريعة في نظرنا تقتصر علي الحدود علي الرغم من أن أساسها الأخلاق. ومن ثم يجب رد اعتبار الأخلاق، حتي نعيد المادة الفعالة وهي الأخلاق إلي الإسلام. كيف يتم هذا؟ الأخلاق تأتي أولاً قبل الأحكام الفقهية، وعدم اختزال الشريعة في الحدود فقط، فالنبي عندما أتاه شاب يأذن له في الزنا، قائلاً له: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال له النبي: اقترب، فاقترب من النبي، فقال له النبي: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال:أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم،قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم ثم وضع النبي يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتي يلتفت إلي شيء. لم يتحدث النبي إلي الشاب عن حكم الزنا، بل حدثه عن قيمة جمالية أخلاقية، ليعطينا الدرس بأن من لايعرف جوهر الأخلاق فلن يفهم الفقه، لأن الفقه سيتحول بنظره إلي قانون مثل باقي القوانين الصماء، بينما الإسلام روح وجمال وقيم وخلق، من أجلها جاءت الأحكام. ورد الاعتبار للأخلاق يكون عبر ربطها بالأحكام الفقهية، والإمام الغزالي يقول في «المستصفي»، إن عدد آيات القرآن 6236 آية، 300 آية منها تتحدث عن المعاملات والأحكام، أي 7% فقط من مجموع آيات القرآن، بينما ال 93% المتبقية أخلاق مرتبطة بالعقيدة. وفي حين يبلغ عدد الأحاديث الصحيحة حوالي 60ألف حديث، منها 1800حديث عن الأحكام، وهذا يعني أن 7% حدود، وباقي 93% أخلاق. أما السبب الثاني لتراجع منحني الخط الأخلاقي، فتقع المسئولية فيه علي المجتمع كله وليس الدعاة فقط، بعد أن تحول الكلام عن الأخلاق إلي أفكار نظرية، كلام لا حياة فيه، كلام نظري بحت، يبتعد مئات الأميال عن الأداء العملي، كلام لا روح فيه، حتي صارت الأخلاق مواعظَ، ومقدمات فلسفية، وجثثا مُحنَّطة في متاحف الحياة اليومية. وحتي يتم تفعيل الأخلاق في حياتنا اليومية، لابد أن نحرك الأخلاق علي يدين وقدمين، وهذا ما قصدته السيدة عائشة عندما تحدثت عن أخلاق النبي قائلة: «كان خلقه القرآن»، «كان قرآنًا يمشي علي الأرض»، ف «يمشي» يعني يتحرك، وتحقيق هذا النموذج لن يكون إلا من خلال التربية علي الأخلاق قبل الأحكام، وجعل الأخلاق طريقة حياة وليست مجرد أفكار نظرية. كيف نفعّل ذلك؟ عودة القدوة، فالقدوة لم تعد موجودة، بعد أن تم تدميرها، فالمدرس لم يعد قدوة، وكذلك رموز المجتمع خدشت، بل العكس صارت القدوة السيئة هي الغالبة، ما أنتج صدمات للشباب، بداية من «داعش» المتطرفة إلي رموز الإباحية في الفن والأفكار المتطرفة. وإذا ما أردنا أن نستعيد الأخلاق يجب أن نركز علي الشباب، باعتبارهم الشريحة الأكبر في المجتمع، ونواته الأساسية، وهناك فكرة جديدة اسمها، برنامج «توليد الخير»، رمزها النحلة، مستوحاة من سورة النحل، تدور حول فكرة أن الخير موجود في الكون، لكنه متوزع وليس مركزًا في شيء واحد، والنحل نموذج لجمعه الرحيق. فكرة البرنامج: ابحث عن الخير في كل إنسان تلقاه ولا تبحث عن إنسان واحد فيه كل الخير، خذ أفضل ما في كل إنسان تلقاه ولا تنظر لباقي أخطائه، ابحث في كل من حولك عن 3أشياء (الخير - الجمال - الرحمة)، والخير منتشر في الناس لكنه ليس مركَّزًا في فرد واحد بالذات في عصرنا، «الخير فيَّ وفي أمتي إلي يوم القيامة»، «من قال هلك الناس فهو أهلكهم». هذه الطريقة تنشر الخير أسرع، لكن تحتاج تربيه لأنها طريقة تفكير، وهذه الطريقة تولد التعايش لأنك ستري الناس كلها حلوة وستتخلص من العنصرية الدينية: مسلم ومسيحي، وتخلصنا من الإلحاد القائم علي فكرة غياب الإنسانية. وقد جربت ذلك شخصيًا، فشعرت بنهر جارٍ من الأخلاق يتدفق بسهولة في نفسي. والآن: حاول أن تجرب ذلك بنفسك وستكون النتيجة حتمًا: «مجتمع أكثر أخلاقًا، مجتمع أكثر تماسكًا وتسامحًا، وهو المجتمع الذي ينشده الإسلام».