من الصعب أن نتجاهل عادات وأعراف المجتمع أي مجتمع، خاصة إذا كانت لها جذور متأصلة فيه، وتمتد إلي قرون طويلة، حتي إنها أصبحت عبر السنين من موروثهم الحضاري والثقافي، وفي المناطق ذات الطابع القبلي نجد ما يسمي ب «المجالس العرفية»، بما يؤكد أننا إزاء واقع لايمكن أبدًا أن ننكره، حتي إن القرآن عندما نزل علي نبينا صلي الله عليه وسلم قدّر العرف، ولم ينكر ما جري التعارف عليه بين الناس وقتها من أمور محمودة، قائلاً: «خذ العفو وأمر بالعرف»، ليؤكد أنه يحترم خصوصيات المجتمعات، ولا يرفض الأعراف والعادات، كما قد يتصور البعض. ما هو العرف؟ العرف هو عادات الناس التي اعتادوا عليها في الحياة عمومًا، وأقرها العقل والشرع والفطرة، بمعني أنه لايصطدم بأمر قد حرمه الإسلام، فهناك من الأمور ما قد يقبلها العقل ويرفضها الشرع، وهذا يسمي بالعرف الفاسد الذي خالف أدلة الشرع، وكل مكرمة عرفها المجتمع عبر التاريخ حتي وإن لم ينص عليها الشرع فهي معتبرة في الإسلام، مثل عيد الأم. ويدخل في العرف ما تعارف عليه مجتمع ما في المناسبات الاجتماعية، كما في الأفراح أو في الموت، ما دام ذلك يتوافق مع العقل والشرع، فإذا كان أهل مصر اعتادوا فعل أمر معين علي مدار سنين طويلة، كما في عاداتهم في رمضان في الأكل والسحور واستعانتهم ب «المسحراتي» لإيقاظ الناس للسحور، فهو ليس بحرام، لأنه لايتعارض مع الدين. ومن العرف جاءت كلمة المعروف، أي المتعارف عليه، وقد بني الإسلام كثيرًا من الأحكام علي مقتضي العرف، وهذا له علاقة بمقصد كبير من مقاصد الشريعة وهو مقصد التيسير، فكلما اقترب الحكم من العرف كان ذلك أريح لنفوس الناس، ولأن العرف يستريح إليه جميع الناس في المجتمع. أدلة احترام العرف هناك من الأدلة ما يؤكد أن الإسلام يحترم أعراف الناس، ومنها ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ». وقال النبي صلي الله عليه وسلم عند فتح مكة: «قد أجرنا من أجرني يا أم هانئ»، كدليل علي أن المرأة لها كلمتها، واختيارها يعادل القرارات الكبري في المجتمع، وبناء علي ذلك قامت كل معادلات التعامل مع المرأة بلا حساسية، وتحول هذا النموذج إلي عرف صار عليه المسلمون مع المرأة. وعن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي فهل آخذ من ماله وهو لايعلم؟ فقال النبي صلي الله عليه وسلم: خذي ما يكفيكي وولدك بالمعروف» (البخاري)، أي خذي بما تعارف عليه المجتمع بقيمة النفقة المماثلة، فالنفقة ليست مقدرة شرعًا بل المرجع في ذلك العرف. «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» فحقوق المرأة وواجباتها واحدة حسب كل عرف في كل زمان ومكان، الغرب جعل المرأة عند الطلاق لها نصف التركة، فماذا أعطاها الإسلام ممكن أكثر حسب العرف. يقول ابن القيم: تتغير الفتوي بحسب الأمكنة والأزمنة والأحوال وذلك يحكمه العرف.. كشف رأس الرجل في الصلاة وغيره يقبل أو ينكر شرعًا وفق العرف. «الشاطبي» في «الموافقات» يقول: «إذا شهد الشاهد في المشرق وهو كاشف رأسه بطلت شهادته لأنها عرف المجتمع في المروءة». شرط العمل بالعرف لكن ليس كل عرف يجب العمل به بل وضع العلماء شروطا منها: ألا يكون في العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة. وإذا بني حكم علي عرف ثم تغير هذا العرف فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره إلي ما يناسب العرف الجديد وهذا يعني أن للعرف تصرفًا في النص بشرط عدم مخالفة العرف لنص قطعي. النبي يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، والله ضرب الأمثال في القرآن وفق أعراف المجتمع «أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت»، وفي الحديث نهي عن مخالفة الملبس الذي تعارف عليه السواد الأعظم في المجتمع، عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللهُ يومَ القِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ»، فهو يأمر الناس ألا يخالفوا مجتمعهم فيما اعتادوه من ملبس.. أتريد الشهرة وتدعي أنك تقلد النبي؟. وقال أبو الوليد الباجي: «كَرِهَ النبيُّ صلي الله عليه وسلم لباسَ غير المعتاد في أهل البلد، وما يَشْتَهِرُ به لابِسُهُ مِن دُونِ الملبس». لماذا أبو الوليد الباجي هو القائل لهذا الكلام؟، لأنه أندلسي.. والأندلس لها أزياء خاصة، فلما جاء العرب تمسكوا بزيهم فقال لهم ذلك. وكان النبي صلي الله عليه وسلم يلبس العمامة، ويمسك بالعصا وغير ذلك من الأمور التي كان يلبسها ويستخدمها الناس في ذلك الوقت من أمور العادة، فالعمائم مثلا قد اختلفت الأعراف فيها وتغيَّرت الأمور في لبسها، فلبسها جائز ما لم يخالف عادة بلد لابسها، فإن خالف العادة صار لباس شهرة، فلو لبس العمامة رجل يعيش في قوم لا يلبسونها لصار شهرة يشار إليه بالأصابع ولبسها لم يكن من السنة. وعلي ما تقدم من أدلة وأقوال العلماء المعتبرة في ذلك، نري أنه لا ينبغي للمسلم أن يشذ عن أهل بلده بثياب، طالما أن ثياب أهل بلده لا تخالف الشرع. «لا تَجتَمِعُ أُمَّةُ محمدٍ علي ضَلالَةٍ أبدًا وعليكم بالسَّوادِ الأعظَمِ فإنه مَن شَذَّ شَذَّ إلي النارِ».