لا ينبغي علي القارئ ارهاق ذهنه في المفاضلة بين هذه الحدود او المقارنة بينها من حيث اهمية واولوية الوجود، وذلك لان غرضنا ابعد من ذلك، ويتمثل في التاكيد علي ان اجتماعها معا وفي ان واحد فيه الكمال والرشاد، فلا غني للنهضة عن خطاب يحدد الغايات والامال ويشحذ الهمم ويحذر من المعوقات والمعرقلات ويعطي في الوقت نفسه اولويات للاليات والوسائل التي تكفل التطبيق الامثل للخطاب علي ارض الواقع، فتحيله إلي مشروع، اما القائد فهو حجر الزاوية، يستوعب الخطاب ويؤمن به ثم يعمل بكل طاقته علي تنفيذه. وتاريخ الفكر الانساني شاغل بهذا الثالوث، فما اكثر الفلاسفة الذين عرضوا علي القادة والمصلحين خطابات في صورة كتب لتعينهم علي توجيه الرأي العام واعداده لتطبيق مشروعاتهم النهضوية. وفي تراثنا العربي العديد من الامثلة نذكر منها كتاب الكندي إلي المعتصم في الفلسفة الاولي، وقد ارشده فيه إلي اهمية الفلسفة والحكمة العقلية وذلك للحد من جمود الفقهاء واعداء التجديد، وكتاب اخلاق الوزيرين الذي جمع فيه ابو حيان التوحيدي اراءه الاخلاقية والسياسية واداب الملك وملاحظاته علي حكمي الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد، وكتاب ابن طفيل (حي بن يقظان) الذي اهداه إلي ابي يعقوب يوسف امير الموحدين، وذلك ليصالح فيه بين المنقول والمعقول والدين والعلم والفلسفة والشريعة، وقد انتهج من بعده ابن رشد نفس المنحي في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. أما في العصر الحديث فقد قدم حسن العطار لمحمد علي والي مصر كتابين ليفاضل بينهما، كتاب مقدمة ابن خلدون الذي اثبت المؤلف خلال فصوله ان الاقتصاد والقوة العسكرية هما الدعامتان اللتان تقيمان الحضارة والمدنية، وكتاب الامير ل ميكيافيللي الذي حوي الاسس والمبادئ التي ينبغي علي الحاكم اقتفاؤها في تسييسه الامة للنهوض بها. واذا كان لي ان اهدي السيسي كتابا، ليكون بمثابة الخطاب المرشد للخروج مما نعانيه من ترد في الاخلاق وفساد في الذمم وعنف في التساهل والاختلاف، فانني اهدي اليه ما كتبه ابن المقفع في الاخلاق التطبيقية (الادب الصغير، الادب الكبير، الدرة اليتيمة، الادب الوجيز) وذلك لانه وجهه لاولي الامر والرأي العام القائد الذي كان يعاني من نفس الاوضاع المتردية (فتن، تنطع في الدين، فساد في الادارة، غيبة العلماء، كثرة الكذابين) ويكفي قول ابن المقفع في نصحه للسلطان شرفا ليكون جديرا بالقراءة والاستيعاب، بل والتطبيق، فذهب إلي ان هناك اربعة شروط لا غني للحاكم عنها من أجل الاصلاح، وهي: التدقيق في اختيار معاونيه ووزرائه ونوابه، - ان تكون لديه خطة وغاية طموحة في النهضة تجمع بين تصور الفيلسوف وواقعية العالم، - ان يتحلي بالصدق في الوعي والقوة والصرامة في العزم، والسعي إلي الكمال في التطبيق، - ان يكون قاسيا وعادلا في الردع في معاقبة الفاسدين والخائنين. وها هي كلمات ابن المقفع: (علي الوالي اربع خصال هي اعمدة السلطان واركانه التي بها يقوم وعليها يثبت : الاجتهاد في التخير،المبالغة في التقدم، والتعهد الشديد، والجزاء العتيد).